كانت الساعة السادسة مساء 11 إبريل، مثل هذا اليوم، 1975، حين التقى اللواء ممدوح سالم، وزير الداخلية، فى مكتبه مع الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، حسبما يذكر «هيكل» فى كتابه «لمصر لا لعبدالناصر».
كان «سالم» مكلفا من الرئيس السادات بتشكيل وزارة جديدة خلفا لوزارة الدكتور عبدالعزيز حجازى، وكانت علاقة «هيكل» مع «السادات» تشهد مدا وجزرا بعد أن أقاله السادات من رئاسة «الأهرام» 2 فبراير 1974، وقرر تعيينه مستشارا للأمن القومى، لكن هيكل رفض المنصب.. يذكر هيكل: «مضت ثمانية أشهر من فبراير إلى أكتوبر 1974، والطرق بيننا غير سالكة، ثم تفضل هو «السادات» فى أول أكتوبر فاتصل بى على غير انتظار، ثم تلاقينا، وتحدثنا، واقترحت عليه بعد لقاء طويل أن نبقى أصدقاء، ونستبعد فى الوقت الراهن على الأقل أى أفكار عن المراكز والمناصب والمسؤوليات، وحضرت معه مفاوضاته مع «هنرى كيسنجر» وزير الخارجية الأمريكية، فى المحاولة الأولى لفك الارتباط الثانى فى أسوان فى مارس 1975، ولم تنجح هذه المحاولة، ولم أكن شديد الأسى على فشلها، بل إننى أحب أن أتصور أنه كان لى نصيب - ولو ضئيل - فى إفشالها».
سارت الأمور بعد ذلك حتى كان لقاء هيكل وممدوح سالم.. يؤكد هيكل، أن سالم عرض عليه الاشتراك فى وزارته نائبا لرئيس الوزراء ومختصا بالإعلام والثقافة.. يضيف: «سمعت عرضه الرقيق كاملا بما فيه تصوره لمهمة وزارته وآماله فيما تستطيع تحقيقه، واتفاقه مع الرئيس «السادات» على مجلس السياسات العليا يرأسه رئيس الجمهورية، ومعه رئيس الوزراء، وخمسة نواب لرئيس الوزراء أنا بينهم، وأنهم سيعملون كفريق رسم ومتابعة سياسات الدولة بسلطات كاملة».
يؤكد هيكل، أنه أبدى اعتذاره بعد أن فرغ سالم من عرضه، وذكر له أسبابه المفصلة فى حوار بينهما استغرق ساعتين كاملتين.. يذكر: «كانت هناك أسباب متعلقة بالسياسات الداخلية والخارجية للحكم، وهى سياسات لا أوافق عليها، وبالتالى لا أستطيع أن أنفذها أو أعبر عنها، وكانت هناك أسباب متعلقة بطبائع السلطة والحكم فى مصر وقتها، وكانت هناك أسباب أخرى، ثم قلت إن لدى سببا آخر قد يبدو شخصيا والحقيقة أنه أكثر من ذلك».
يكشف هيكل أسبابه الشخصية، مؤكدا أن «سالم» يستطيع أن يشهد عليها الآن «توفى ممدوح سالم يوم 24 فبراير 1988» ويذكر هيكل روايته فى كتاب «لمصر لا لعبدالناصر»، وكانت طبعته الأولى بمصر عام 1987.. قال هيكل: «إننى أرى الآن بداية حملة على «جمال عبدالناصر»، وهى حملة جائرة وظالمة، وأنا لا أستطيع أن أوافق عليها، فضلا عن أشارك فيها ولو حتى بطريق غير مباشر، ولسوف أجد نفسى شريكا فى هذه الحملة شئت أو لم أشأ، إذا أنا قبلت منصب نائب رئيس الوزراء للإعلام والثقافة.. سوف أجد نفسى أمام احتمالين لا ثالث لهما.. إما أن أترك الحملة تستمر وتتزايد، وهو ما أتوقعه مع الأسف، أو أن أمنع هذه الحملة بسلطة الرقابة، ومهما يكن من رأيى فى شأن هذه الحملة، وفى شأن القائمين بها، وفى شأن القوى العربية والدولية التى تشجع عليها، فإننى لا أتصور أن أستعمل سلاح الرقابة لمنعها».
يضيف هيكل: «ثم قلت إننى وقد اعتذرت عن المنصب أريد لوجه الله والوطن أن أنبه إلى مخاطرها، فهذه الحملة سوف تؤدى ضمن ما تؤدى إليه إلى تقويض شرعية النظام، لأنها تضرب فيه عند الأساس..والحقيقة أن ما يحدث هو أشبه ما يكون برجل يقف على فرع شجرة، ولا يشغل نفسه إلا بقطع جذعها، ناسيا أنه إذا سقط الجذع فإن كل الفروع سوف تنهار.. إن تجربة 23 يوليو بالطبع ليست فوق النقد والحساب، ثم إننى أنا الذى كتبت يوم الأربعين بعد وفاة جمال عبدالناصر، مقالا عنوانه «عبدالناصر ليس أسطورة»، أى أننى لا أؤمن بالقداسات للبشر، وإنما أؤمن بإنسانية البشر، وأول مقتضياتها أن كل التجارب قابلة للتقييم شرط أن تكون الجدية والموضوعية أساسا للنقد وأساسا للتقييم، أما أن يتحول الأمر إلى حملات إدانة كاسحة، فهذا ليس تجنيا على تاريخ مصر فحسب، وإنما هو نحر فى شرعية النظام من أساسه، وإذا كان ما ينسب لثورة 23 يوليو ولجمال عبدالناصر على النحو الذى تقول به الحملات الآن، فليس أمام النظام الذى يدعى أنه استمرار للثورة، والذى لا يملك أساسا للشرعية غيرها، إلا أن يجمع أوراقه ويرحل».
يؤكد هيكل: «قلت هذا كله بتفاصيل التفاصيل، وقلت غيره وبقيت على اعتذارى ولم أغير رأيى.. ومرت أسابيع وشهور والحملة على «جمال عبدالناصر» تتزايد، وتشتد يوما بعد يوم، ولا تعرف حدا تقف عنده، بل وتستبيح كل الحدود، التاريخ والأمانة والأخلاق والشرف جميعا».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة