حالة من الزخم تشهدها جامعة الدول العربية، في المرحلة الراهنة، جراء تداخلها المباشر في العديد من أزمات المنطقة، في محاولة صريحة لفرض مظلتها، في ظل محاولات استقطاب دولية وإقليمية، تهدف في الأساس إلى تقويض "الهوية" العربية، والتي طالما مثلت كابوسا للعديد من القوى، التي تسعى لبسط نفوذها، للقيام بدور قيادى، على حساب الدول العربية الرئيسية في الشرق الأوسط، هو ما بدا بوضوح في سلسلة الزيارات والاجتماعات التي خاضها كبار مسئولي الكيان العربى المشترك، في الأيام الماضية، والتي تناولت أكثر القضايا العربية استقطابا، سواء دوليا أو إقليميا، في انعكاس صريح للرغبة الحقيقية في إضفاء الشرعية العربية على أية خطوات يمكن اتخاذها، لإنهاء الأزمات التي ضربت تلك الدول، منذ سنوات.
فبين لبنان والعراق، مرورا بسوريا، وانتهاءً بليبيا، هكذا كانت محاور القضايا التي ناقشها مسئولي الجامعة العربية، سواء في زياراتهم، والتى قام بها الأمين العام أحمد أبو الغيط، إلى العراق، أو الأمين العام المساعد، السفير حسام زكى إلى لبنان، أو الاجتماعات التي عقدت حول سوريا، وليبيا، خلال زيارتى وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف، أو المبعوث الأممى إلى ليبيا يان كوبيش، إلى مقر الجامعة، يومى الثلاثاء والأربعاء، وهو ما يمثل انعكاسا لحالة الاهتمام الدولى الكبير بالدور الذى تلعبه المنظمة الإقليمية في المرحلة الراهنة، وبالتالي لم يعد ممكنا تجاوزها عند تمرير أية حلول للأزمات، التي أطاحت بدول المنطقة العربية، خلال السنوات الماضية، رغم محاولات التقويض التي تبنتها العديد من القوى الأخرى، والتي سعت لخلق بوابات جديدة من النفوذ لها، من رحم الصراعات، وعلى حساب الشعوب العربية.
ولعل المتابع لزيارتى لافروف وكوبيش، لمقر الجامعة العربية، ولقائهما مع أبو الغيط، يلحظ أن ثمة خطابا عربيا مشتركا، يجمع بين موقف الكيان المشترك، تجاه أزمتى سوريا وليبيا، بينما لم يختلف في جوهره، عن رسائلها في لبنان والعراق، قبل عدة أيام، حيث تقوم الرؤية في مجملها على ضرورة ألا يخرج حل الأزمات الراهنة، عن المظلة العربية، وعبر التنسيق مع المجتمع الدولى، بعيدا عن التدخل في الشئون العربية من قبل القوى الإقليمية، الساعية لفرض نفوذها من أجل تحقيق الهيمنة والنفوذ على حساب "الهوية" العربية، والتي تمثل خطا أحمر لا ينبغي تجاوزه.
اجتماع بين أبو الغيط ولافروف بالجامعة العربية
ففي خلال لقائه مع وزير الخارجية الروسى، سيرجى لافروف، شدد أبو الغيط على خطورة التدخلات الإقليمية في الشئون الداخلية للدول العربية، في ضوء ما تؤدى إليه الأدوار التي تلعبها بعض القوى من إطالة أمد النزاعات القائمة، ناهيك عن زيادة تعقيدها، وبالتالي صعوبة حلها في المستقبل القريب.
رسالة أبو الغيط للافروف، لم تختلف كثيرا عن رؤيته التي قدمها خلال لقائه مع كوبيش، وإن كانت الأولى أكثر شمولا للقضايا العربية في مجملها، بينما كانت الثانية تقتصر على الأزمة الليبية، حيث أكد على ضرورة إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة، من كافة أراضى ليبيا، في ضوء ارتباط تلك الميليشيات بقوى إقليمية تسعى لخلق أذرع لها داخل الدول العربية، لتكون وسيلة لفرض رؤيتها في المستقبل، وهو الأمر الذى تدركه الجامعة العربية جيدا، ولذلك وضعته في مقدمة أولوياتها، عند الحديث عن كافة أزمات المنطقة.
إلا أن السعي العربى لإنهاء التدخلات الإقليمية، والذى يعد الجزء الأهم من حل الأزمات العربية، لم يمنع المنظمة الإقليمية من التحرك نحو تحقيق التكامل مع الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولى، وذلك على مسارين متوازيين، أولهما، التعاون مع القوى الدولية التي تلعب دورا إيجابيا، لدحض التهديدات المحيطة بالمنطقة، وعلى رأسها الإرهاب، على غرار روسيا، والتي أصبحت الطرف الدولى الأكثر فاعلية، في سوريا، خاصة بعد نجاحها المنقطع النظير في دحض تنظيم داعش الإرهابى، بالإضافة إلى دورها المتنامى في مواجهة الميليشيات في العراق خلال السنوات الماضية، بالإضافة إلى الثقة الكبيرة فى قدرة موسكو على القيام بدور أكبر في أزمات الإقليم.
لقاء أبو الغيط من يان كوبيش
التقارب مع روسيا يوازيه انسجام أخر مع الصين، يظهر بجلاء في التعاون الكبير مع بكين في العديد من الملفات، وعلى رأسها مجابهة أزمة كورونا، عبر الحصول على اللقاح وتوزيعه بعدالة، خاصة على الدول التي تعانى من وطأة الصراعات والنزاعات ناهيك عما ترتب عليها من أزمات إنسانية.
أما المسار الأخر، فيدور حول التعاون مع المنظمات الدولية الأخرى، على غرار الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبى، والاتحاد الإفريقى، وغيرها من المنظمات التي ترتبط بصورة مباشرة بالأزمة محل النقاش، وهو ما يساهم في إضفاء شرعية دولية على الحلول المقترحة لإنهاء الأزمات، ولكن تحت المظلة العربية، لتصبح الجامعة طرفا فاعلا ومهما في كافة القضايا الدولية المرتبطة بالمصالح العربية، سواء على المستوى الجماعى او الفردى.
ففي خطوة مهمة، كشفت المنظمة الإقليمية، في بيان صادر عن الأمانة العامة، أن اجتماعا رباعيا، سوف يعقد الأسبوع المقبل، بين مسئولي المنظمات الأربعة سالفة الذكر، وذلك لتبادل الرؤى وتنسيق المواقف لإنجاح عملية الانتقال التي تمر بها ليبيا والوصول إلى تسوية سياسية متكاملة للوضع في البلاد، وهو ما يحمل في طياته إدراكا بارتباط المصالح العربية، بمصالح العديد من المنظمات الأخرى، سواء جغرافيا، على غرار الاتحاد الإفريقى في الحالة الليبية، أو أمنيا، على غرار الاتحاد الأوروبى، والذى يمثل حل الأزمة الليبية أمرا محوريا بالنسبة له، على خلفية مخاوف كبيرة جراء تفاقم أزمة اللاجئين، وما يرتبط بها من أبعاد أمنية واقتصادية، ناهيك عن دور الأمم المتحدة، التي تبقى مهتمة بإنهاء الأزمة، لتحقيق الهدف الرئيسى من نشأتها، وهو حماية السلم والأمن الدوليين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة