فى القرآن الكريم، صورًا وتعبيرات بلاغية جديرة بالتوقف، أمام هذا النص الإلهى البليغ، ومعجزة الله الكلامية التى جاء بها النبى محمد صلى الله عليه وسلم، ليرى الناس الهدى والفرقان ويهديهم من الظلمات إلى النور، فجاء كآية للناس بجلال كلماته وجمال مفرداته وعظمة بلاغته، ليظل "الفرقان" و"البيان" لدى الناس، قادر على جذب أسماعهم وأبصارهم، ويأسر قلوبهم.
وفى القرآن العديد من الآيات التى نزلت بلغة جميلة ووجيزة قادرة على التعبير الجمالى والتصوير الفنى، ومفردات كثيرة زينها الحسن والإبداع والإتقان، ومن تلك الآيات الجمالية التى جاءت فى القرآن: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلْأَنْهَٰرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ".
وقوله {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أى: اشتدت وغلظت، فلم تؤثر فيها الموعظة، {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغى أن تقسو قلوبكم، لأن ما شاهدتم، مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها {كَالْحِجَارَةِ} التى هى أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب فى النار، ذاب بخلاف الأحجار.
ووفقا لـ"التفسير الكبير" للرازى، فأن قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) فيه مسائل: المسألة الأولى : الشيء الذى من شأنه بأصل ذاته أن يقبل الأثر عن شيء آخر ثم إنه عرض لذلك القابل ما لأجله صار بحيث لا يقبل الأثر فيقال لذلك القابل : إنه صار صلبا غليظا قاسيا، فالجسم من حيث إنه جسم يقبل الأثر عن الغير إلا أن صفة الحجرية لما عرضت للجسم صار جسم الحجر غير قابل وكذلك القلب من شأنه أن يتأثر عن مطالعة الدلائل والآيات والعبر.
المسألة الثانية: قال القفال: يجوز أن يكون المخاطبون بقوله: (قلوبكم) أهل الكتاب الذين كانوا فى زمان محمد صلى الله عليه وسلم، أى اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التى جاءت أوائلكم [ص: 118] والأمور التى جرت عليهم والعقاب الذى نزل بمن أصر على المعصية منهم والآيات التى جاءهم بها أنبياؤهم والمواثيق التى أخذوها على أنفسهم وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم، فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التى تلين عندها القلوب، وهذا أولى لأن قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم) خطاب مشافهة، فحمله على الحاضرين أولى، ويحتمل أيضا أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا فى زمن موسى عليه السلام خصوصا، ويجوز أن يريد من قبلهم من سلفهم.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: (من بعد ذلك) يحتمل أن يكون المراد من بعد ما أظهره الله تعالى من إحياء ذلك القتيل عند ضربه ببعض البقرة المذبوحة حتى عين القاتل، فإنه روى أن ذلك القتيل لما عين القاتل نسبه القاتل إلى الكذب وما ترك الإنكار، بل طلب الفتنة وساعده عليه جمع، فعنده قال تعالى واصفا لهم: إنهم بعد ظهور مثل هذه الآية قست قلوبهم، أى صارت قلوبهم بعد ظهور مثل هذه الآية فى القسوة كالحجارة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة