ابن زريق البغدادى توفى فى سنة 1029 ميلادية، واشتهر فى الشعر العربى بقصيدة واحدة "لا تعذليه" وهى قصيدة خالدة، استمرت على مدى الأزمنة دالة على قدرة الشعر فى التعبير عما يحس به الإنسان من مشاعر (حب وألم).
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِى لَومهُ حَداً أَضَرَّبِهِ
مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ اللَومَ يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِى الرِفق فِى تَأِنِيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ
فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ المَهرِ أَضلُعُهُ
يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ
مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ
رَأى إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
يقول عنه موقع ديوان الشعر العربى، أبو الحسن على بن زريق البغدادى شاعر عراقى ولد فى محلَّة الكَرخ ببغدادَ، وهو شاعرٌ غريبٌ عجيب، بل إنَّه جعلَ الغرابة عنوانا له، فهو غريْبٌ عن أهلِ الأدبِ والعارفين به، فلم يُعرَفُ من سيْرتِه إلا اسْمُه، وحتى ما عرفوه عنْ فقره، وعنْ مرتع ِصباه، وعن زواجِه، والكثير ممَّا يتعلقُ به، كلُّ هذا استنبطوه منْ قصيدته التى نحنُ بصدَدِها والتى لم نعرف له إلاها".
كَأَنَّما هُوَ فِى حِلِّ وَمُرتحلٍ
كَأَنَّما هُوَ فِى حِلِّ وَمُرتحلٍ
مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
إِنَّ الزَمانَ أَراهُ فى الرَحِيلِ غِنىً
وَلَو إِلى السَدّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ
تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه
للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ
وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ
رزقَاً وَلادَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ
قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُو
لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى
مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ
وَالحِرصُ فى الرِزاقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت
بَغِى أَلّا إِنَّ بَغى المَرءِ يَصرَعُهُ
وَالمَهرُ يُعطِى الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُهُ
إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ
والأغرَب من هذا هو كيف يقولُ هذه القصيدة - التى تعَدُّ منْ عيون الشِّعْر العربى على مر العصور- ولم يشتهرْ بالشِّعر ولم يؤثر عنه قوله غيرها؟! تأخذ هذه القصيدة فى التاريخ الأدبى أسماء ثلاثة: عينية ابن زريق، وفراقية ابن زريق.
اِستَودِعُ اللَهَ فِى بَغدادَ لِى قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّى لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّى لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بى يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِى مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذب اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ
عَنّى بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ
إِنّى أَوَسِّعُ عُذرى فِى جَنايَتِهِ
بِالبينِ عِنهُ وَجُرمى لا يُوَسِّعُهُ
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ
وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا
شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ
اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّى بَعدَ فُرقَتِهِ
كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ
كَم قائِلٍ لِى ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ
الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبى لَستُ أَدفَعُهُ
القصيدة وجدت عند رأس ابن زريق عند موته، وهى من عيون الشعر، وقد حظيت بدراسة الشعراء، والأدباء، حتى عارضها الشاعر أبو بكر العيدى بقصيدة مكونة من 49 بيتاً.
أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُهُ
لَو أَنَّنِى يَومَ بانَ الرُشدُ اتبَعُهُ
إِنّى لَأَقطَعُ أيّامِى وَأنفِنُها
بِحَسرَةٍ مِنهُ فِى قَلبِى تُقَطِّعُهُ
بِمَن إِذا هَجَعَ النُوّامُ بِتُّ لَهُ
بِلَوعَةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهجَعُهُ
لا يَطمِئنُّ لِجَنبى مَضجَعُ وَكَذا
لا يَطمَئِنُّ لَهُ مُذ بِنتُ مَضجَعُهُ
ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ المَهرَ يَفجَعُنِي
بِهِ وَلا أَنّض بِى الأَيّامَ تَفجعُهُ
حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ
عَسراءَ تَمنَعُنِى حَظّى وَتَمنَعُهُ
كتب ابن زريق قصيدته مخاطبًا فيها زوجته، مؤكداً حبه وإخلاصه لها، كما تحدّث فيها عن خلاصة تجربته مع الرحيل والغربة، ومعاناته فيها، كما ذكر رفض محبوبته لرحيله، الأمر الذى زاد من حزنه وأساه، حتى ظهر فى آخر القصيدة تصدع قلبه، ومعاناته من لوعة الأسى، كما عبّر عن وحدته حيث لا رفيق له فى غربته.
قَد كُنتُ مِن رَيبِ مَهرِى جازِعاً فَرِقاً
فَلَم أَوقَّ الَّذى قَد كُنتُ أَجزَعُهُ
بِاللَهِ يا مَنزِلَ العَيشِ الَّذى دَرَست
آثارُهُ وَعَفَت مُذ بِنتُ أَربُعُهُ
هَل الزَمانُ مَعِيدُ فِيكَ لَذَّتُنا
أَم اللَيالِى الَّتى أَمضَتهُ تُرجِعُهُ
فِى ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ
وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ
مَن عِندَهُ لِى عَهدُ لا يُضيّعُهُ
كَما لَهُ عَهدُ صِداقٍ لا أُضَيِّعُهُ
وَمَن يُصَدِّعُ قَلبى ذِكرَهُ وَإِذا
جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكرى يُصَدِّعُهُ
لَأَصبِرَنَّ لِمَهرٍ لا يُمَتِّعُنِي
بِهِ وَلا بِى فِى حالٍ يُمَتِّعُهُ
عِلماً بِأَنَّ اِصطِبارى مُعقِبُ فَرَجاً
فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ
عَسى اللَيالى الَّتى أَضنَت بِفُرقَتَنا
جِسمى سَتَجمَعُنِى يَوماً وَتَجمَعُهُ
وَإِن تُغِلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ
فَما الَّذى بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ