التاريخ دائما يحمل العديد من الأوجه، وفى حياة السياسيين الكبار العديد من الأسرار والكواليس المفقودة، ربما يكون الوحيد القادر على حكيها وكشف تفاصيلها هم أصحابها، ومن السياسيين البارزين في المنطقة والذين قاموا بإصدار سيرتهم الذاتية مؤخرا كان الدكتور فايز الطراونة الذى يعيده المتابعون أحد أشهر رؤساء الوزراء في الأردن على مر تاريخها.
والسيرة الذاتية للدكتور فايز الطراونة الصادرة في كتاب بعنوان "فى خدمة العهدين" عن دار الآن ناشرون وموزعون الأردنية، ويقع فى 526 صفحة من القطع الطويل، بالإضافة إلى العديد من الصور التي التقطت للسياسى الأردنى البارز أثناء فترة خدمته فى المناصب السياسية التى تقلدها، يتناول مسيرة الرجل الذي تسلم الكثير من المناصب الرسمية على مدار نصف قرن، وساهم فى عدد من المحطات المهمة فى تاريخ الأردن المعاصر.
الكتاب جمع بين الشخصى والتوثيقى ما يجعله روائيا وتأريخيا نافعا لجمهور الباحثين والمؤرخين وايضا القارئين الآخرين، وقد صيغ بلغة خبيرة سلسة، غاية فى الدقة من استخدام للمصطلح ووصف الاحداث، ووصفه المحلل السياسى الدكتور مصطفى الفقى، مدير مكتبة الإسكندرية، فى مقال سابق بعنوان "الأردن بين عهدين" بأن "الكتاب نموذجى بين كتب السيرة الذاتية لأنه يقدم جزءًا من تاريخ الأردن الحديث والمشكلات التى واجهها، ويؤرخ بأمانة لتاريخ تلك الدولة المتألقة برغم المصاعب والمتاعب التى واجهتها فى العقود الأخيرة".
محتوى الكتاب
إلى ذلك يشتمل الكتاب على ستة عشر فصلاً تتناول، البدايات ومصادر الوعي الأولى، ثم خطوات على درب المستقبل، ويتعرض الكتاب إلى انتقال د.الطراونة من الديوان إلى العمل الحكومي، ثم عضوية مجلس الوزراء، والقضايا العربية من غزو الكويت إلى تحريرها والطريق إلى السلام، ومعركة المفاوضات الثنائية والمباحثات متعددة الأطراف، وكيف جرى التعامل مع "أوسلو" والوصول إلى اتفاقية "وادي عربة"، ويتناول د.الطراونة انتقاله من السفارة فى واشنطن إلى وزارة الخارجية، ثم العودة إلى الديوان الملكي رئيساً وتشكيل حكومته الأولى، ويتوقف عند لحظة حاسمة من تاريخ الأردن عند عودة الحسين ووفاته، ويلقي الضوء على أحداث دراماتيكية تهز المنطقة والعالم، ويناقش د. الطراونة فى الكتاب عدداً آخر من القضايا تحت عناوين منها: "بعيد عن المسؤولية.. قريب من الحدث"، و"الربيع العربي.. خلط الأوراق والنسخة الأردنية"، و"التعديلات الدستورية وتشكيل حكومتي الثانية"، ثم يعود للكتابة عن عمله فى رئاسة الديوان الملكي للمرة الثالثة، ومسيرة الإصلاح والتحديث فى عهد الملك عبدالله الثانى.
ويختتم د.الطراونة الكتاب الذي اشتمل على عدد من الصور بالقول: «ملِكان من ملوك آل هاشم، الحسين بن طلال وعبدالله الثاني ابن الحسين، سكنا مهجتي وضميري وعقلي، وأقاما في سويداء القلب مني. ملكان عشت معهما أكثر من ثلثَي عمري في الصفوف الخلفية ثم الصفوف الأمامية، وواجهنا خلال ذلك الهينَ والصعب، والحلو والمر، والسمين والغثّ، والخفيف والشديد، والصديق والعدو، والموالي والمعارض، والصادق والكاذب، والأمين والمنافق، والشجاع والجبان، والكريم والبخيل، والوطني والمدّعي، وانهارت عروشٌ من حولنا، وتبدّلت أنظمة، وشهدنا حروباً وقلاقل ومؤامرات ودسائس، وعشنا الازدهار والتراجع، والابتسامات والدموع، والربيع والخريف، وما هانت عزيمة الملكين ولا خبَت ابتسامة التفاؤل عن وجهيهما ولا غابت النظرة الثاقبة الواثقة عن عيونهما، وما انحنى الأردنيّون إلّا لله وظلوا كالرواسى الشامخات».
أهم القضايا العربية يكشف تفاصيلها الطراونة فى كتابه
الكتاب غزير في تناوله وتنوع موضوعته ويبين من خلاله المؤلف العديد من المواقف الهامة في التاريخ الأردني، حيث يتعرض السياسى الكبير لمحنة مرض الملك الحسين، كذلك تعرض للأيام العصيبة قبيل رحيل الملك ومنها نقل ولاية العهد فى سلاسة وتحضر من الأمير المثقف الحسن بن طلال إلى الابن الأكبر للملك الراحل عبد الله بن الحسين الذى شغل مقعد والده باقتدار وأثبت كفاءة مدهشة وقدرة فائقة على قيادة المملكة فى ظل ظروف صعبة من احتدام الصراع العربى الإسرائيلي إلى سنوات ما سمى بالربيع العربى، كذلك يشير الكتاب إلى قدرات الملك عبدالله الثانى الناحجة فى استكمال مسيرة والده باقتدار وذكاء وحكمة، فضلًا عن حنكة سياسية موروثة فى البيت الهاشمى الكبير.
ولعل الكتاب يكشف العديد من التفاصيل الهامة والمثيرة فى التاريخ السياسى للمنطقة العربية، لم يكن قد تم تدولت من قبل كما تحدث عنه "الطروانة"، كذلك تطرق إلى كشف كواليس بعض الأحداث السياسية المركزية التي غيرت من شكل المنطقة العربية منها: الحروب مع إسرائيل خاصة نكسة 1967 وانتصار أكتوبر المجيد، وتطور العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، والثورة الإسلامية في إيران، فضلا عن مراحل تطور اتفاقات السلام العربية الإسرائيلية بداية من معاهدة كامب ديفيد التي أبرمتها مصر بقيادة الرئيس الراحل أنور السادات، مرورا بأوسلو، فمعاهدة وادي عربة بالإضافة لتطور ملف السلام السورى اللبنانى الاسرائيلى.
إدارة الملك عبدالله
كما أن الدكتور فايز الطراونة، آرخ أيضا لفترة هامة من تاريخ المملكة الهاشمية، واصفا فترة ولاية الملك عبدالله والتى وصفها بـ"العهد الجديد للأردن" مبينا بعض التفاصيل الهامة، وأسلوب القيادة للملك عبدالله الثاني، وأهم محطات وتحديات الحقبة الهاشمية الرابعة من اقتحامات اسرائيلية للحرم الشريف والانتفاضة الفلسطينية على إثرها، واحداث ايلول التي غيرت الاجندة العالمية، والحرب على العراق، والنزاع الطويل في سورية، وأحداث وتحديات الربيع العربي داخليا واقليميا وحكمة التعامل معها بالإصلاح السياسي والدستورى الذى استجاب لها.
كذلك وثق الكتاب لأهم التحديات الاقتصادية الجسيمة والقرارات الصعبة التي كان لا بد من اتخاذها، ورحلات الأردن مع برامج الإصلاح المختلفة، وقد كان "الطراونة" مشتبكا مع هذه التحديات منذ أن كان مستشارا اقتصاديا برئاسة الوزراء ووزيرا للتموين منذ نهاية الثمانينيات.
نكسة 1967
تعرض د. الطراونة للأحداث نكسة 1967، مشيرا إلى أن الرئيس جمال عبد الناصر، حين قام بطلب سحب قوات الطوارئ الدولية من خليج العقبة، كان غرضه القيام بمناورة سياسية شعبية معتمدا على رفض الأمم المتحدة لسحب قوات الطوارئ الدولية، ولم يكن في حسبانه أن يحدث العكس مؤديا إلى وضع المنطقة في أجواء شبه حرب مؤكدة، مشيرا إلى الوضع جعل الأمة العربية يعتريها حالة من الانفعال القومى من حسم الحرب مع إسرائيل واستعادة فلسطين من أيدى الصهاينة، وكانت الثقة الشعبية في جمال عبد الناصر وقتها كاسحة ومطلقة، لكن "الطراونة" عاد وأكد أنه أصابه حالة من الخوف لأنه كان يرى أنها حربا عشوائية وغير مخطط لها، وذلك في ظل تردى الأوضاع العربية المتردية والتي يشوبها بعض التوتر خصوصا على المستوى الأردني والمصرى والسورى.
الإخوان وحكم مصر
كذلك تحدث الدكتور فايز الطراونة عن فترة حكم الإخوان لمصر حيث أكد أن وصول الإخوان إلى حكم مصر عزلها عن قضاياها العربية وأدى إلى غيابها ودورها القيادى فى المنطقة، وأوضح أن المصريين شعروا منذ الأيام الأولى لوصول الجماعة إلى سدة الحكم إلى أن المرشد هو الحاكم الفعلى للبلاد، كذلك أكد رئيس الوزراء الأردنى السابق إلى أن الإخوان افتقدوا فن إدارة الدولة وتغيب عنهم مفاهيم الحاكمية الراشدة، وهو ما وضح من خلال تحييد الإخوان لجميع القوى السياسية الفاعلة في الدولة.
وتطرق كذلك الطراونة إلى دور مصر فى القضية الفلسطينية، واصفا كلا من مصر والمملكة الأردنية بقطبى الرحى للقضية العادلة للشعب الفلسطينى وأن المعاهدات التي قامتا بها كلتا الدولتين توضلتا إليهما لخدمة القضية الفلسطينية، كذلك لفت إلى أن مصر لعب دورا تاريخيا مهما فى تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية، قبل أن يتولى الإخوان السلطة وينحازون إلى حركة حماس كليا ويسقطوا من حساباتهم شرعية السلطة الفلسطينية، مشيرا إلى أن الإخوان كانوا سبب العمليات الإرهابية التى وقعت فى سيناء بعد أن فتحوا الحدود مع غزة، مما نتج عنه تهريب المتطرفين إلى هناك وتوطينهم فى سيناء.
الرئيس السيسى و30 يونيو
وأشار الدكتور فايز الطراونة إلى الدور الكبير الذى لعبته الأردن في مساندة المملكة الأردنية لمصر بعد 30 يونيو، لافتا إلى دور الرئيس عبد الفتاح السيسى في مساندة رغبة الملايين في ثورة يونيو الشعبية، كذلك وجهة نظر الملك عبدالله في أن تدخل الجيش المصرى كان في صلب المفهوم الديمقراطى، ووضح الدور الكبير الذى لعبه الملك الهاشمى من أجل مساندة مصر والرئيس السيسى خاصة في ظل توتر العلاقات المصرية الأمريكية ومساندة إدارة الأخيرة في فترة حكم أوباما للجماعة الإرهابية.
الكتاب بجانب كشفه العديد من كواليس الأحداث العربية الكبرى، والأردنية بشكل خاص، فهو صيغ بلغة خبيرة نابعة من سياسى له ثقله في المشهد السياسى العربى، وتصوير بالغ الدقة للأحداث، استطاع من خلاله "الطراونة" أن يعيش القارئ في حالة الضحك عند وصفه الأحداث، وتارة يبكى القارئ عند حديثه المؤثر والبليغ عن جنازة الملك الحسين، وفى كافة فصول الكتاب هناك معانى تشعر الأردني بمشاعر الفخر بالوطن والاعتزاز به والإيمان بانتصاره، محللا وموثقا لمنظومة القيم الأردنية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة