اختلى الطبيب بالشيخ عبدالوهاب، وبعد لحظات قال له الكلمات الحقيقية: «هذا الطفل سيموت خلال ساعات، ولأن غدا الجمعة وهو إجازة فى الحكومة، فإننى أرى أن تستخرجوا شهادة وفاة من الآن»..واختفى الشيخ عبدالوهاب وعاد يحمل بين يديه أوراقا، ولم تكن إلا شهادة وفاة الطفل الصغير محمد عبدالوهاب.. هكذا تعامل الأب «عبدالوهاب عيسى» مع طفله «محمد» الذى يبلغ عامين، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمود عوض فى كتابه «محمد عبدالوهاب»، مضيفا: «لم يمت، لا فى اليوم التالى ولا التالى، ولا التالى».
مات الموسيقار محمد عبدالوهاب فى يوم 4 مايو، مثل هذا اليوم، عام 1991، بعد حياة امتدت به من يوم مولده «13 مارس 1902» فى «باب الشعرية» بالقاهرة، عاصر خلالها من حكام مصر، الخديو عباس حلمى الثانى، ثم السلطان حسين كامل، ثم الملك فؤاد، وبعده الملك فاروق، ومن الرؤساء، محمد نجيب، ثم جمال عبدالناصر، فأنور السادات، وأخيرا محمد حسنى مبارك، وعاصر تحولات الموسيقى العربية فى القرن العشرين، وكان هو من أكبر رواد صناعة هذه التحولات.. موسيقاه تعد الأكبر تأثيرا فى الموسيقى العربية، وصوته الغنائى رآه الشاعر الغنائى أحمد شفيق كامل، فى حواراتى معه: «أجمل صوت غنائى سمعته أذناه».
تتلمذ على يد أمير الشعراء أحمد شوقى.. يذكر لمحمود عوض: «كان شوقى لى بمثابة الأب، وهو الذى استطاع أن يدلنى على معرفة نفسي، كان أستاذى الأول، وأعطانى جواز المرور إلى مجتمعات العمالقة من أصدقائه التى كان يستحيل على أن أدخلها وحدى».
عاصر رواد مثل سيد درويش، ومحمد القصبجى، و زكريا أحمد، ورياض السنباطى، إلا أنه بقى «النجم» بما تحمل النجومية من قيم إيجابية تصب فى مسار النهضة، نجومية امتدت معه حتى مماته دون أن تسحب من ريادته فى مجاله، فلماذا ظل هكذا؟.. طرحت هذا السؤال على الموسيقار عمار الشريعى عام 1996، فذكر لى إجابة لافتة كتبتها فى شهادته لى ضمن كتابى «أم كلثوم وحكام مصر».
قال «الشريعى»: «تميز عبدالوهاب وسط الأسماء التى ذكرتها بموهبة ضخمة جدا، كانت عيناه وأذناه فى الساحة يرون النجاح فين، فيأخذوه ويطوروه، ويضيفوا عليه ميزتين، ثلاثة، وينزل به إلى الأسواق، هو كان قادرا على الاستيعاب، فحتى وفاته كان يتمتع بعقل فظيع، لو حكى لك القصة سبع مرات، سوف يقول لك الأساسيات واحدة فى السبع مرات، والإضافات تكاد تقول عنها نقل مسطرة بين المرة والأخرى فى السبع مرات، وأضف إلى ذلك التوفيق من عند الله.. عبدالوهاب أكثر واحد عايش النجومية والأستاذية، وعاش أكثر من عهد لملوك ورؤساء، كان هو واحدا منهم، وفى تاريخ الموسيقى العربية كان هو الأسعد حظا، والذين ربوه قدموه، فأمير الشعراء أحمد شوقى خدمه فى الانتقاء والفهم، وسعد باشا زغلول ومصطفى النحاس باشا، خدماه فى طريقة تخاطبه وتلقيه للأمور، والتصاقه بالملوك والرؤساء أعطاه هذه الهيبة التى تفرد بها فى زمن كان الممثل مشخصاتى، والمطرب مغنواتى، لكن عبدالوهاب طول عمره عبدالوهاب».
فى الحديث عن دوره، سنجد من ينسب جزءا من نجاحه إلى الاقتباس من الموسيقى الغربية، وبالرغم من أن الموسيقار كمال الطويل رفض هذه المسألة حين سألته عنها، قائلا: «الصحيح أنه رجل حوار بين الشرق والغرب فى الموسيقى»، مضيفا: «هو صاحب التجربة الثانية فى كل شىء، فلم يكن الزوج الأول لزوجاته الثلاث، ولم يكن الملحن الأول لمن لحن لهم، ولم يأخذ جملة موسيقية غربية إلا إذا كانت نجحت فى بيئتها، ولديه ثقة فى أنها ستنجح فى بيئته»، أما عمار الشريعى فقال لى: «أراه عظيما حتى فى اقتباسه، بل إن هذا الاقتباس كان ضروريا، ففى لحظة قدم هو الموسيقار الإيطالى «فيردى» للموسيقى العربية لم نكن نعرفه، ولا نعرف شيئا عن الغرب وموسيقاه، كان تعامله مع الموسيقى الغربية بمثابة الحلم لديه، حلم التخطى خارج حدود الوطن، كان الحلم عنده مراحل من أول أغنيته «جفنه علم الغزل» التى هى «الروبما» العربى الصرف حتى أغنيته «الصبا والجمال».
يضيف «الشريعى»: «فى كل أعماله سنجد الحلم موجودا، سنجد استشرافا للبعيد، كان يريد إدخال المزيكا جوانا، هو لم يأخذها طازجة بل تعامل معها كزهرة فى وسط لحنه ليعمل منها نسيجا خالصا، لم يكن له اقتباس واحد غير مبرر سوى اقتباسه من السيمفونية الخامسة لـ«موزارت» فى بداية أغنية «أحب أعيش الحرية»، فبدونه كان من الممكن تمشى الأغنية، وهذه هى المرة الأولى والأخيرة التى أراه فيها يأخذ منها بغرض الأخذ، غيره كان يأخذ الحاجة ويلطعها، إنما هو كان متفاعلا وليس ناقلا مع ما يود أن يفعله».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة