يعتبر العصر البطلمى فى مصر أول فترات الاحتلال الأجنبى بعد انتهاء حكم الملوك المصريين بعد نهاية عصر الأسرة الثلاثين الفرعونية، وفيه تحولت مصر إلى دولة بل إمبراطورية ذات طبيعة مزدوجة تجمع بين العنصر الهيللينى اليونانى، الممثل فى المحتل الوافد الذى كانت تربطه صلات قوية وقديمة بمصر القديمة، والعنصر الشرقى ممثلاً فى مصر الفرعونية وحضارتها العريقة التى أبهرت الوافد اليونانى وجعلته يتأثر، وفى النهاية نتجت حضارة جديدة هى الحضارة الهيللينستية التى جمعت بين حضارة اليونان القديم ومصر القديمة.
وقام الملوك البطالمة باستكمال ما بدأه الإسكندر الأكبر فى مصر، لكن من خلال منظور واقعى سعى إلى تكوين إمبراطورية وراثية فى الشرق الأدنى القديم، ودخلت مصر فى عصر البطالمة فى صراعات وتحالفات عديدة مع القوى الدولية الفاعلة فى المنطقة، ولعبت دوراً عسكرياً متميزاً فى أحيان كثيرة، ومالت إلى استخدام الدبلوماسية وتبادل الهدايا مع القوى الخارجية المحيطة بها كى تؤمن مصالحها فى المنطقة، ومنيت بالهزيمة فى أحيان أخرى، وكان عهد الملوك الأربعة الأوائل هو عصر الملوك البطالمة الأقوياء، حسب كتاب "ملكات الفراعنة.. دراما الحب والسلطة" للدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية.
كليوباترا الثانية
وكانت الملكة كليوباترا الثانية (185-116 قبل الميلاد) ابنة الملك البطلمى بطلميوس الخامس إبيفانس (أى "الظاهر")، الذى بدأ الضعف فى عهده يدب فى أوصال دولة البطالمة وكان بداية لعصر الملوك البطالمة الضعاف، ثم مات، وترك حكم مصر لزوجته الملكة كليوباترا الأولى، سورية الأصل، التى أنجبت منه ولدين هما: بطلميوس السادس وبطلميوس الثامن إيورجتيس الثانى، وبنتا هى: كليوباترا الثانية التى تزوجت من أخويها واحدا بعد الآخر.
ويقول الدكتور حسين عبد البصير، انتقل الحكم إلى ابنه الأكبر وأخيها بطلميوس السادس فيلوميتور أى "المحب لأمه"، ولما كان فى مرحلة الطفولة بعد، قامت أمه كليوباترا الأولى بالوصاية عليه، وبعد أربع سنوات ماتت، فانتقلت الوصاية على ابنها ذى السنوات التسع إلى اثنين من رجال البلاط: الخصى يولايوس والعبد المحرر ومحاسب القصر لينايوس، وحين بلغ سن الرشد، قررا تزويجه من أخته الأكبر منه سنا كليوباترا الثانية، واتخذت كليوباترا الثانية الألقاب التالية: "أخت-زوجة ابن رع" و"سيدة الأرضين"، وأنجبت منه أربعة أبناء: ولدين باسم بطلميوس وبنتين باسم كليوباترا.
وتوج بطلميوس السادس ولم يكن بلغ سن الخامسة عشرة بعد، وكان ألعوبة فى يد الوصيين والموظفين، فتشجع خاله، حاكم سوريا، أنتيوخس الرابع، على غزو مصر فى الحرب السورية السادسة، بل وصل إلى حدود الإسكندرية التى تمكنت من مقاومته على الرغم من أسر بطلميوس السادس، وانتقل الحكم إلى أخيه بطلميوس الثامن.
وانتهت غزوة حاكم سوريا بقبول وساطة بعض السفراء الأجانب فى مصر، لكنه ما لبث أن نقض الاتفاق، وعاد إلى مصر غازيا، وتدخلت روما وأعلنت نفوذها فى مصر، ورسم المندوب الرومانى دائرة على الأرض حول الملك السورى وطلب منه الخروج من مصر والرد قبل الخروج من الدائرة، وعندئذ لم يكن أمام الملك السورى سوى الانسحاب، وبمجرد خروجه قامت الثورة فى الإسكندرية، ويبدو أن زعيم الثورة كان ذا أصول مصرية، غير أن الملك الذى خرج من الأسر تمكن من إيقاف هذه الثورة بمساعدة شقيقه الأصغر، لكن هذا الأخير ما لبث أن أعلن نفسه ملكا على البلاد، وطرد أخيه الذى لم يكن أمامه سوى اللجوء إلى روما التى أصبحت من ذلك العصر قبلة الملوك الفارين، ودخل الملك بطليموس السادس إلى روما بملابس بالية لكسب عطف الرومان، ويقال أنه أقام فى بيت تاجر إسكندرى يعيش هارباً فى روما الأمر الذى يدل على سوء الأوضاع الاقتصادية فى مصر آنذاك.
وتابع كتاب "ملكات مصر"، وقام الشقيق الأصغر لبطلميوس السادس، بطلميوس الثامن بالعديد من الأعمال السيئة التى أغضبت المصريين، فثاروا عليه، وانتهزت روما الفرصة، فأعادت بطلميوس السادس إلى الحكم على أن يحكم بطلميوس الثامن برقة، وحرصت على ترسيخ المبدأ الرومانى الشهير "فرق تسد"، فجعلت كل أخ متحفزا ضد أخيه.
وقام بطلميوس السادس بالعديد من الأعمال فى المعابد المصرية لكسب ود المصريين، لكن الموت لم يمهله، فمات فى حملة على سوريا لمحاولة استعادة عمق سوريا.
وترك بطلميوس السادس طفلا صغيرًا تحت وصاية أمه كليوباترا الثانية، وكان يعتقد أن هذا الطفل هو بطلميوس السابع، ويطلق عليه الآن اسم بطلميوس المنفى الذى يكن لم يتخط مرحلة الطفولة، واشترك هذا الطفل فى الحكم مع أمه، غير أن عمه بطلميوس الثامن تمكن بمساعدة اليهود من العودة إلى مصر، وقتل ابن أخيه، وانتقل إليه العرش، واتخذ بطلميوس الثامن لقب إيورجتيس الثانى.
وكانت بداية حكمه غير مبشرة بالخير، فقتل ابن أخيه، وتزوج من كليوباترا الثانية، أرملة أخيه، وبلغ به التهور أن اغتصبت ابنة أخيه، كليوباترا الثالثة، وتزوجها بعد ذلك، وأدت هذه الأحداث إلى ثورة فى البلاد، لم يتحملها الملك، وهرب هو وكليوباترا الثالثة، ولم يستمر الملك كثيرًا خارج البلاد حتى ساعدته روما على العودة إلى مصر، هو وزوجته كليوباترا الثالثة، فلجأت أرملة أخيه وزوجته، كليوباترا الثانية، إلى أنطاكية.
وتغيرت سياسة بطلميوس الثامن تماما بعد عودته إلى مصر، فنراه يصدر عفوا عاما أو ما يعرف بـ"العفو الكبير" عن كل الجرائم، ويعطى امتيازات للمعابد المصرية، ويعمل على إكمال الكثير منها، ويأمر الموظفين بعدم قبول أية رشاوى أو استخدام أى نفوذ ضد السكان، غير أن هذا العفو، وإن حمل الكثير من الخيرات للمصريين، فإنه عكس انهيار الأوضاع فى البلاد وتفشى الرشوة، الأمر الذى جعل تنفيذ هذا العفو غير ممكن، فضلا عن تدخل روما فى كل شؤون البلاد، وكأن مصر احتلت من قبل الرومان قبل احتلال أوكتافيوس أغسطس عام لها فى 30 قبل الميلاد.
فى ظل تلك الأحداث الملتهبة والمختلف ثقافة وفكرا وأداء عن ثقافة مصر الفرعونية المحافظة، عاشت الملكة كليوباترا الثانية، فاكتوت بنارها، وشعرت بأسى بفقد الغالى والنفيس فيها، وتبدلت بين الأزواج من أخوتها، وعانت من مؤامرات القصر، وقسوة السياسة والحكم، وذاقت مرارة العروش والجيوش فى مصر البطلمية الضعيفة.