تحجز كلمة "الشرف" بأبعادها وظلالها المتعددة، مكانًا دائمًا فى الأدبيات الكبرى، وبالأخص المحلية، سواء في الكتابة السردية أو النصوص المسرحية ـ كذلك الأعمال الدرامية، ويأتى ذلك من كون "الشرف" كلمة مثيرة للجدل، بارتباطها بالمرأة وبالقضايا الوطنية وغيرها، فهناك من يضعها تاجًا على رأسه، وهناك من يتخذها وسيلة للوصول إلى غايته ومبتغاه، ومن خلال هذه البوابة يمكن قراءة "أفراح القبة" لـ"نجيب محفوظ" وصداها في الأعمال الدرامية والعروض المسرحية.
من المعالجات التى قدمت على خشبة المسرح لنص "محفوظ" سالف الذكر، مسرحية "أفراح القبة" التى عرضت على المسرح العائم الصغير بالمنيل، من إنتاج مسرح الشباب بالبيت الفنى للمسرح، معالجة وإخراج محمد يوسف المنصور، وتدور الأحداث حول فرقة مسرحية تقدم عملًا جديدًا يحمل اسم "أفراح القبة" ويكتشف الممثلون في الكواليس أن أحداث المسرحية تدور حول شخصياتهم الحقيقية، وأن مؤلف المسرحية يعرض أمامهم أسرارهم التي وقعت في الماضي ويسعى الممثلون لإيقاف هذه المسرحية، لكن صاحب الفرقة "سرحان الهلالي" يصر على استكمال العمل، ويجد الممثلون أنفسهم مجبرين على الاستمرار في تمثيل أدوارهم الحقيقية، فيحاول الجميع تبرير مواقفه من الحياة، فيظهر كل واحد منهم وكأنه ضحية الآخرين في الحياة، وربما كانت فرصة كي يتطهروا من خطايا الماضي.
العرض من بطولة: محمد تامر، سمر علام، حنان عادل، حمزة رأفت، مينا نبيل، أحمد صلاح، عبد المنعم رياض، محمد عبد القادر، رنا خطاب، يوسف مصطفى، مينا نادر، محمد يوسف، هايدى عبد الخالق، وفاء عبد الله، أحمد عباس، باسم سليمان، مارتينا روؤف، حسام علاء، هدير طارق، ديكور وتصميم إضاءة عمرو الأشرف، تصميم أزياء عبير بدراوي، تأليف موسيقى أحمد نبيل، تصميم حركي مناضل عنتر.
حقق العرض نجاحًا كبيرًا وإشادة نقدية واسعة، منذ افتتاحه خلال يناير من العام الماضي، إذ حصل على عدد كبير من جوائز المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الـ13، كذلك حصل على جائزة أفضل عرض، كما حصل مخرج العرض يوسف المنصور على جائزة أفضل إخراج وأفضل درامتورج، وحصد عبد المنعم رياض على جائزة أفضل ممثل دور أول رجال، وجورج أشرف على جائزة أفضل دور ثان رجال مناصفة.
ومع هذه الجوائز التي تأتي في صالح العرض، هل كان العرض حقًا على القدر الذي يأمله الجمهور من تجديد وابتكار؟ خاصة أنه مقتبس من نص قوى ومتماسك، وذي أبعاد فلسفية ووجودية عن ماهية الحياة، فضلًا عن معالجته الفنية بأكثر من طريقة أبرزها معالجته دراميًا من خلال مسلسل "أفراح القبة" إنتاج عام 2016، من بطولة الفنانة منى زكى والفنان إياد نصار.
النص الروائي
صدرت الرواية عام 1981، واعتمد فيها نجيب محفوظ على تقنية تعدد الأصوات "البوليفونية"، وقسمت إلى أربعة فصول، يروى كل فصل منها بطل من أبطال العمل، الأول هو "طارق رمضان" ممثل، والثاني "كرم يونس" ملقن، والثالث "حليمة الكبش" بائعة التذاكر، والرابع "عباس كرم يونس" مؤلف، على أن تلك الشخصيات تتقاطع في قصصها مع شخصيات أخرى المؤثرة في أحداث الرواية، هي "تحية" ممثلة، و"سرحان الهلالي" صاحب فرقة مسرحية، و"أم هاني" مسئولة الأزياء في المسرح، و"أحمد برجل" مسئول البوفيه، و"فؤاد شلبي" الناقد الفني، و"درية" ممثلة، و"إسماعيل رشدي" ممثل، و"سالم العجرودي" مخرج.
تبدأ الرواية من داخل المسرح المملوك لـ "سرحان الهلالي" مدير وصاحب فرقة الهلالي المسرحية، والذي يقرر تقديم مسرحية (أفراح القبة) التي ألفها عباس كرم يونس المؤلف وابن ملقن الفرقة، وما أن يبدأ الممثلون البروفات حتى يتفاجأوا بأنها تتناول أحداث حياتهم الشخصية، وتكشف العديد من المواقف والتفاصيل الفاضحة بكل ما تحتويه من عنف وفساد وانحطاط أخلاقي، رغم أن الجميع ينادون بالشرف، ورغم محاولة الجميع وقف العرض، إلا أن سرحان الهلالي مدير الفريق يصر على استكمال العمل لكي يتطهر من آثام الماضي، ويجد الممثلون أنفسهم مجبرين على الاستمرار في تمثيل أدوارهم الحقيقية.
يحاول جميع أبطال العمل أن يحكى قصته من وجهة نظره، من خلال نظرة أنانية لا تقوى على نقد الذات، فيحاول إلقاء اللوم على الآخرين، وتنزيه نفسه من الأخطاء التي وقع فيها حتى لو كانت تمس الشرف، وتتكامل الأحداث والصورة التي يحاول من خلالها المؤلف من مجمل ما يرويه الأبطال تفنيد الأسباب والدوافع وراء أفعالهم بما تحمل من تناقضات ما بين الخير والشر معًا.
نجيب محفوظ ربما في كتابته كان متأثرًا بحقبة ما بعد نكسة 1967 والحالة التي صارت عليها البلاد، والانحطاط الفكري والأخلاقي الذي ضرب المجتمع، وهو الأمر الذي تناوله بعض من كبار الكتاب أمثال "صنع الله إبراهيم" في روايته "67" و المسرحي السوري "سعد الله ونوس" في مسرحيته الشهيرة "حفلة سمر من أجل خمسة حزيران"، إذ حاول كل منهم طرح رؤيته عن الوضع بعد النكسة في المجتمع العربي وانعكاسها على الناس، وجاء نص نجيب محفوظ معبرًا عن الحال المجتمعي، محاولا نقد الصوت الواحد المعبر عن السلطة قبل النكسة والذي مثله "سرحان الهلالي".
ربما السؤال الذي حاول "محفوظ" أن يصل فيه إلى إجابة واضحة عنه من خلال تناوله الفلسفي للعمل هي "الحقيقة"، فنصل إلى أنه لا توجد حقيقة مطلقة ولا ثابتة ولا متفق عليها، وإنما الحقيقة نسبية، متعددة الزوايا، وكلًا منا له حقيقته الخاصة، ومن المعروف أيضا أن صاحب "الثلاثية" درس الفلسفة ومطلع على العديد من أراء كبار الفلاسفة، ولعل رؤيته التي طرحها تتوافق مع المنظور الذي طرحه من قبل الفيلسوف "إيمانويل كانط" عندما سأل عن معيار الحقيقة، فأكد أنه (لا يمكن أن يوجد معيار مادي للحقيقة لأن الحقيقة المادية هي تلك المطابقة لموضوعها، والحال أن موضوعات الحقيقة تختلف وتتعدد مما يتعذر معه وجود معيار كوني لها).
المعالجة الدرامية
فى عام 2016، قدم على الشاشة الصغيرة، مسلسل يحمل نفس الاسم، فى 30 حلقة تمثل أكثر من 18 ساعة عرض، كتب له السيناريو والحوار محمد أمين راضى ونشوى زايد، وأخرجه محمد ياسين، قام ببطولته منى زكى، إياد نصار وجمال سليمان وسامي مغاوري، والتزام العمل إلى حد كبير بالحبكة الدرامية التي وضعها "محفوظ" في روايته، إلا أنه أضاف بعض الشخصيات مثل "عبده" والد "تحية"، ووالدتها "بدرية"، وأختاها "سنية" و"علية"، وزوج أختها "أشرف بشندي"، مما أضاف بالتأكيد أبعادا درامية أخرى عن التي جاءت في الرواية، ومختلفة عن التي جاءت على لسان أبطال "محفوظ" الأربعة.
المسلسل زاد أيضًا من مواقع الحدث، إذ صرنا نرى أحداثا تدور داخل كباريه وأخرى عن الدعارة داخل عائلة تسكن في حي شعبي، كل ذلك لم يكن له وجود في الرواية، كذلك تطرق العمل إلى مشاهد وزوايا أخرى تخدم رؤية صناع العمل لم يتطرق إليها "محفوظ" في روايته مثل مشهد وفاة "عبد الناصر" وصدمة مصر في رحيل زعيمها، بالإضافة مشهد شذوذ والد "تحية" الذي كان أحد المشاهد المحورية في العمل وغير من مصير الأحداث خاصة مصير البطلة "تحية".
المسلسل أيضًا وفقا للناقد الدكتور نادر رفاعي، تتبع أسلوب تعدد وجهات النظر، ويسرد نفس الواقعة من أكثر من وجهة نظر بالإضافة إلى أنه استغل تعدد الرواة ليكمل القصة مثل "لعبة البازل" وإن كان عانى المسلسل من كونه تأليف أكثر من كاتب سيناريو فضلا عن أنه كان يمكن معالجته في أقل من 20 حلقة.
العرض المسرحي
جاء العرض في قالب درامي هزلي، ومعالجة تمزج بين المعقول واللامعقول تسخر من عبثية الحياة، واصفًا نفسية الإنسان وتناقضاته، وانعدام الغاية من وجوده، ويسخر من الحياة والأوضاع التي قد تضع الإنسان في حياة أخرى غير التي كان يتمناها، فيبقى في صراع دائم، هل كان ذلك نتيجة أخطائه هو نفسه أم وقع ضحية تصرفات وتعامل الآخرين معه، فنرى في النهاية أن الواقع أحيانا يكون أكثر دهشة من الخيال.
والتزم العرض هو الآخر بالخط الدرامي الذي بناه نجيب مسبقًا، مستفيدًا أيضًا من المعالجة الدرامية التي وضعها محمد أمين راضى ونشوى زايد من قبل، في طرح القصة من وجهات نظر مختلفة وعلى لسان أبطال العرض كلًا من وجهة نظره، فيما خلق يوسف المنصور، حبكة واقعية لتترابط الأحداث، مستعيضًا عن السرد الدرامي على لسان الأبطال الذي قامت عليه رواية "محفوظ"، عن طريق الإعداد للمسرحية التي يعترض كل بطل عن تأدية مشهده، ويحاول عرض مبرراته والأسباب الحقيقة وراء فعلته من منظوره الخاص، فتكشف لنا الأحداث عن الوجه الآخر لكل شخصية والرغبات الشريرة والرؤى السيئة والضغائن التي كان يحملها كل منهم للآخر، وهو ما جعل عدة مشاهد تتكرر بسبب تقاطعها مع أكثر من بطل، وجسد كلا منهم مشهدا ليربط بين الحاضر الذي يعيشه والماضي الذي كان سببا فيما وصل إليه.
واكتفى العرض بالشخصيات الأساسية والثانوية التي وضعها محفوظ في روايته بعيدًا عن معالجة المسلسل الدرامي، لكنه أعطى مساحة أكبر للعديد من الشخصيات مثل "سرحان الهلالي" الذي جسده باحترافية كبيرة الفنان عبد المنعم رياض، الذي ظهر في نهاية الأمر متحكمًا في الأحداث وفى مصائر أغلب أبطالها، ويسيرها حسبما يريد هو من أجل مصالحه الشخصية وأغراضه الفاسدة، مع وضع العديد من الخطوط الدرامية الإضافية لتعميق قصص الحب والكراهية والخيانة، كذلك دارت أغلب أحداثه مقسمة ما بين مسرح فرقة الهلالي ومنزل "كرم يونس" وزوجته "حليمة الكبش"، والذي جاء منقسما إلى دورين الأول حيث يعيش كرم وحليمة وعباس ومن قبلهم كان كرم مع أمه التي كانت مؤثرة في حياته، والثاني ينقسم إلى اتجاهين الأول ينتهي إلى طاولة القمار والثاني إلى حجرة طارق، وكأنه تعبير عن التقسيم الطبقي للشخصيات في العمل، ويقسم المنزل "سلم" تتلاقى دراجته فى اتجاهين، وكأنه تعبيرا أن الحياة له طريق واحد، ونحن من نختار مصائرنا التي نتجه إليها.
المكون الرئيسي لشخصيات العمل، جاء متماسا مع تركيبة المجتمع المصري في حقبة الستينيات والسبعينيات التي تدور فيه أحداث العرض، وتناقضاته ما بين المعلن والمسكوت عنه، فالظاهر غير الباطن، فنرى من تقدم نفسها على أنه ابنة أحد الباشاوات وهى في حقيقة الأمر من أسرة بسيطة تسكن حيا شعبيا، و"سرحان الهلالي" مدير الفرقة، دائم الحديث عن الشرف (أكثر الكلمات ترديدا على لسان أبطال العرض) وهو أبعد ما يكون عنه، ربما متماسا مع الشعارات الاشتراكية والقيم المثالية الزائفة التي ملأ بها النظام الناصري العالم ونشرها إعلامه، قبل أن يفيق الجميع على النكسة النكراء، والفساد الذي كان استشرى ووصل بنا إلى حد الهزيمة.
بشكل عام شخصيات العمل كانت جميعها مركبة، وكل شخصية منهم لها دواخلها وحكاويها الخاصة، الجميع اختلفوا وإن اجتمعوا في أنهم جميعا ضحية الغير، الكل تبرأ من فساده ونأى بنفسه منها، وحاول إلقاء اللوم على الآخر.
إشكالية هل الإنسان "مسير أم مخير" أيضا كان لها دورها في الأحداث فالجميع يرى أنه لم يختر دوره في الحياة، بينما فرضت عليه الظروف الحياتية ذلك، فـ"حليمة" أرادت أن تكون نجمة لكن الظروف ذهبت بها إلى شباك التذاكر كبائعة، الجميع نفسه في مكان غير مكانه، لم يختر مصيره ولم يختر نهايته، ربما البداية كانت هي الاختيار الوحيد، لكن الحياة لا تسير دائما كما نبتغى منها وتأخذنا إلى مصائر مختلفة، أحيانا تصعد بينا وأحينا تهبط بينا بعنف، تماما كما جاء على لسان بطل العرض طارق رمضان (الحياة مسرح كبير، ولكنني لست ممثلا تلك هي المعضلة) وهى الجملة الأساسية التي تكررت كثيرا على لسانه فجاءت مناسبة تماما مع الأحداث.
اللافت في العمل المسرحي هنا، هو إيقاعه، الذي جاء متوافقا إلى حد كبير مع روح المسرح الحديث، فالأحداث وإن تكررت بعض مشاهدها ولكنها كانت تسير بشكل تصاعدي منتظم، وجاءت أغلب الجمل الحوارية مناسبة تماما ودالة على الأحداث، واستطاعت المعالجة في نحو ساعتين عرض أن تحيط بكل هذه العوالم، وأن تأخذنا من كواليس المسرح إلى كواليس الحياة نفسها.
المميز أيضا هو عدم الشعور بالممل ولا الزحام على خشبة المسرح حتى في المشاهد التي احتاجت اجتماع أغلب أبطال العمل، فجاءت حركة الممثلين منتظمة، كل يعبر عنه حالته التي تستحوذ في لحظته على أعين واهتمام الجمهور، الأداء وإن كان متباينا لكنه كان رائعًا من جميع أبطال العمل، الجميع سعى لتقديم أفضل ما عنده، الجميع ظهر متحكما في أدواته (الصوتية والشعورية والجسدية) ملامحهم وانفعالاتهم كانت دالة، كلماتهم مؤثرة، بما يليق بالحدث وردود الفعل النفسية والجسدية للشخصيات، وبما يليق بالروح الذي يفرضها النص المسرحي، والذي أعطى مساحة للبطل للتفكير فيه والتأثر بها، ومنح الجميع فرصة ليثبتوا أنهم مبدعون حقًا.
الديكورات في مجملها كانت بسيطة، وجاءت معبرة عن مواقع الأحداث مراعيًا دلالات العرض خصوصًا في ديكور البيت القديم، الموسيقى المصاحبة للعرض كانت مميزة في التعبير عن وتيرة الأحداث، ورائعة في تجسيد صخب الحياة تماما مثلما تدور أغلب المشاهد، المميز كذلك كانت الإضاءة والملابس الشخصية التي كما جاءت مناسبة مع روح الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية، مع التركيز على اللوحات الاستعراضية الراقصة والتلاعب بالإضاءة، فجاءت دلالة ورمزية الملابس وبؤر الإضاءة معبر عن حال الشخصيات والأحداث، ففي إحدى المشاهد يظهر بطل العمل "طارق رمضان" يرتدى قميصا أبيض عليه "بروفر أحمر"، هنا شعرت أن الألوان تماما تناسب نفسية "طارق" فهو ثائر غاضب مندفع، لكنه من داخله الطيب المحب الذي يرى نفسه ضحية الآخرون وأولهم سرحان الهلالي.
في النهاية كان العرض أكثر تعبيرًا عن عنف الحياة وأكثر صدقًا في تناوله للحقيقة وإن كانت نسبية، وفى تعبيره عن "الشرف" ومفهومه وإن كان إدعاءً أحيانًا، ورغم عنف وصعوبة الأحداث لكن الفن كان غالب حتى النهاية، فجاء العرض رائعًا فنيًا ومتماسكًا أمام أصل روائي فلسفي ومعقد، محافظًا على ملامح وروح الرواية "المحفوظية" وأن اختلف معها في التطبيق والرؤى، وقدموا صناعه وجبة فنية دسمة، وعبر أبطاله عن العديد من المشاعر التي تدور في نفس كل واحد منا بصدق، فكل منا داخله حكايته الخاصة وماضيه الذي يحتفظ بتفاصيله، لكن علينا في النهاية أن نواجه الحياة بشجاعة أكثر.