غضب المشير عبدالحكيم عامر، من الكاتب نجيب محفوظ، وتوعده بالعقاب، وذلك بسبب روايته «ثرثرة فوق النيل» التى بدأت الأهرام فى نشرها من يوم 2 يونيو، مثل هذا اليوم، 1966 وتتضمن نقدا عنيفا للأوضاع، يتحدث عنه كل ليلة مجموعة من الحشاشين يجتمعون فى عوامة فى النيل، وبالرغم من أن طبيعة لقاء هؤلاء كان للكيف عبر أنفاس «الجوزة» بالحشيش، إلا أن كلامهم كان يحمل إشارات كثيرة فى نقد الأوضاع السائدة، وبعد الانتهاء من نشر «الأهرام» للراوية، تمت طباعتها فى كتاب، فحدثت أزمة يروى قصتها نجيب محفوظ فى كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» للكاتب والناقد رجاء النقاش.
يذكر أديب نوبل، أنه بعد نشر الرواية، ثار المشير عبدالحكيم عامر، يضيف: «بلغنى أنه هدد وتوعد بإنزال العقاب بى، بسبب النقد العنيف الذى تضمنته الرواية لسلبيات قائمة فى المجتمع، وسمعه البعض وهو يقول: نجيب زودها قوى ويجب تأديبه ووقفه عند حده».
يعلق «محفوظ»: «عندما تخرج كلمة «ويجب تأديبه» من المشير عامر، فإنها تحمل معانى لا تخفى على الذين عاشوا فى ذلك العصر، كما أن لها معانى خاصة عندى، حيث ربطت صداقة حميمة بين المشير وابن أختى حازم النهرى، وتزاملا فى الدراسة الابتدائية والثانوية، وكان المشير مقيما تقريبا فى بيت أختى ويناديها بـ«طنط»، وفى حفل زفاف ابنة أختى بعد قيام ثورة يوليو 1952، حضر المشير واصطحب معه أنور السادات، وكان ذلك قبل نشر رواية ثرثرة فوق النيل بسنوات، وعلمت أن المشير - فى ذلك الحفل - سأل عنى، فأبلغوه بأننى انصرفت بعد عقد القران مباشرة، ومن عاداتى الثابتة أننى إذا دعيت لحفل زواج واضطررت لحضوره، فإننى أنصرف بعد عقد القران فورا، لأننى من أعداء الصخب والضجيج اللذين يعقبان عقد القران».
يضيف «محفوظ»: «سأل المشير يومها عنى لكى يناقشنى فى مقال كنت كتبته فى جريدة «الجمهورية» فى ذلك الوقت فى أوائل الستينيات، وكنت أدعو فى هذا المقال إلى الخروج من حالة التأرجح بين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية، وما دمنا قد اخترنا الميل إلى الكتلة الاشتراكية فلماذا لا ننضم إلى «الكوميكون» وهو السوق المشتركة للدول الاشتراكية، وسف نكسب من ذلك مزايا عديدة، وذلك كان فى نظرى أفضل من أن نبقى معلقين بين الاتحاد السوفيتى ورابطة عدم الانحياز والكتلة الرأسمالية الغربية، وعلى الأقل فلن نتعرض لاعتداء عسكرى إلا فى حالة قيام حرب عالمية ثالثة، كان هذا رأيى فى ذلك، وكان المشير يخالفنى فى وجهة نظرى، ويرى أن اتجاه مصر إلى ذلك يمثل ضررا بالغا عليها».
هكذا يوضح «محفوظ» الظروف التى لم تسمح بلقائه مع المشير عامر فى هذه المناسبة الأسرية فى بداية الستينيات من القرن الماضى، وبعد نحو 22 عاما، عرف ما دار فى الكواليس بشأن راوية «ثرثرة فوق النيل»، يقول: «عندما جاء الدكتور ثروت عكاشة لتهنئتى بجائزة نوبل، حكى لى تفاصيل ما دار فى كواليس السلطة عن أزمة رواية «ثرثرة فوق النيل»، فقد كان «عكاشة» وقتئذ وزيرا للثقافة، وبينما هو يستعد لرحلة عمل إلى إيطاليا، استدعاه جمال عبدالناصر، وسأله عما إذا كان قرأ الراوية، ولما لم يكن قرأها، فقد طلب منه عبدالناصر قراءتها وإبداء رأيه فيها بعد عودته من إيطاليا.
يضيف «محفوظ»: «قرأ ثروت عكاشة الرواية فى أثناء رحلته، وفى أول لقاء له مع الرئيس عبدالناصر دافع عنها، وفند اتهامات المهاجمين لها، وأكد للرئيس أننى أنبه إلى أخطاء موجودة وليس لدى سوء نية من مهاجمة نظام الحكم، ثم قال له: إن من الضرورى أن يتوافر للأدب قدر من الحرية، لينقل صورة واقعية حقيقية عن المجتمع، وإذا لم يجد الأدب هذا القدر من الحرية مات واضمحل تأثيره، واستطاع ثروت عكاشة إقناع عبدالناصر بأن حرية الأدب هى أفضل دعاية للنظام فى الخارج، وبالفعل اقتنع عبدالناصر، وقال لعكاشة: «اعتبر المسألة منتهية».
يؤكد «محفوظ»: «هكذا تراجع المشير عامر عن تهديده بعقابى بعد تدخل عبدالناصر، ولكن مصدر دهشتى من تهديد المشير عامر هو أنه لم يراع صداقته القوية بابن أختى، وكنت أظن أن هذه الصداقة ستشفع لى ولو قليلا، وان ابن أختى حازم النهرى كان قد تخرج فى مدرسة التجارة، وعندما قامت الثورة كان مفتشا للضرائب على الدرجة السادسة فى الكادر الوظيفى، وبسبب علاقته بالمشير تولى مناصب عليا عديدة، ثم انتقل إلى رحمة الله عقب حرب أكتوبر 1973، ولموته حكاية مؤلمة، فابنه كان ضمن صفوف قواتنا المسلحة التى خاضت الحرب، واستشهد هذا الابن، وكان حازم مصابا بمرض فى القلب، فلم يتحمل الصدمة، ورحل عن دنيانا فى نفس الأسبوع الذى علم خلاله بنبأ استشهاد ابنه».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة