مثل كل أدوات النشر، فإن مواقع التواصل الاجتماعى لا يمكن اختصارها فى عيوب أو مميزات، وبجانب كون هذه الأدوات منصات لحملات ناجحة، أو لتضامن عام لصالح قضية، ومكانا لمناقشات جادة حول القضايا المطروحة، فهى أيضا مجال للكثير من عمليات النشر الناقصة أو المقتطعة من سياقها، أو الاتهامات الناقصة والموجهة والمرسلة، التى تثير تعاطفا تلقائيا من جمهور ربما لا يكون على دراية كبيرة بالموضوع، والاستناد على رواية طرف فى قصة، للحكم قبل الاستماع لرواية الطرف الآخر.
وحتى عند صدور أحكام قضائية بالإدانة أو البراءة، تنطلق التعليقات مع أو ضد الحكم، مع تجاهل أن المحكمة تستمع للأطراف، وتفحص الأدلة والأوراق، وآخر مثال على هذا الأمر ما جرى مع فتيات «السوشيال ميديا»، والأحكام التى صدرت ضدهن، والتى أثارت جدلا، بعض المنصات الكبرى بالخارج تعاملت مع الأمر بعيدا عن أنه قضية واتهامات، وحاولت تصويره على أنه «قمع» لحرية التعبير، مع غض الطرف عن حيثيات الأحكام، والتعامل مع قضية تهم الرأى العام، أو التفرقة بين حرية التعبير، واستخدام أدوات التواصل فى أنشطة منافية أو اتجار بالبشر، وهى جرائم منصوص عليها فى قوانين دول العالم، ويبدو أنه من التجاهل، معاملتها مثل بوستات أو فيديوهات اجتماعية.
ضربنا مثلا بقضية الفنانة الكبيرة التى أعلنت أنها تعرضت لاستخفاف وتهجم من نجم شاب، واستندت فى روايتها إلى بوست منسوب للنجم، الذى خرج بدوره لينفى علاقته بالبوست، وظهرت دلائل فعلية على أن البوست مزيف، وصادر من حساب غير موثق، ومشكوك فى نسبته للنجم.
بمجرد أن نشرت الفنانة وصرحت بأن النجم أهانها، انطلقت حملات تعاطف مع الفنانة وضد النجم، قبل أن يظهر أن البوست منتحل ومزيف ومشكوك فيه، التعاطف ضد النجم صدر بسبب مواقف سابقة له، وتصريحات وتصرفات تحمل استفزازا، وتحول جمهور عريض إلى قاض وحكم على النجم، وأدانه من دون أن يسعى لتقصى الحقيقة.
نحن أمام ظاهرة تقع ضمن عيوب وثغرات «السوشيال ميديا»، حيث يعين البعض نفسه قاضيا يُصدر حكما بالإدانة أو البراءة بناءً على وجهة نظر واحدة، متجاهلا الطرف الثانى، وإذا طالبه أحد بالتقصى والبحث والاستماع لوجهة نظر الطرف الآخر، ينتفض رافضا ومتهما من يطلب الموضوعية، بـ«الانحياز»، وهى مفارقة لافتة، وتحتاج إلى نقاش، إذا كانت هناك رغبة لاتخاذ سياق عادل أو موضوعى فى الحكم على الموضوعات والمواقف.
وفى كثير من الأحيان يتعاطف كثيرون مع الضحية الافتراضية، أو من يقدم نفسه على أنه ضحية، ويدينون الطرف الغائب من دون أى محاولة للاستماع إلى أقواله.
وتشهد مواقع «السوشيال ميديا» يوميا عشرات، وربما مئات الأمثلة على إصدار أحكام قبل الاستماع الى أقوال المتهم، أى الحكم قبل أى مداولة أو تحقيق، حيث يظهر شخص على صفحته فى بوست، يكيل الاتهامات للآخرين، ويسارع بنشر شهادته، وخلال الشهور الماضية ظهرت ونُشرت بوستات تتضمن اتهامات لأشخاص بالتحرش أو النصب أو الاعتداء، وينضم قطاع كبير من الجمهور لصالح الضحية الافتراضية، قبل أن يسعوا لمعرفة المتهم والاستماع إلى دفاعه.
وبمجرد أن تظهر شهادة أو مدونة تحمل اتهامات، يتم التعامل معها من قطاع كبير على أنها حقيقة تستدعى الإدانة، ويصدرون حكما نهائيا ضد المتهم، دون حاجة للاستماع إى أقواله أو سؤال الشهود، ومن دون تطبيق أبسط قواعد القانون، وهى الاستماع للمتهم وللمجنى عليه، أو للشاكى وللمشكو فى حقه وللشهود، فى محاولة للبحث عن الحقيقة، حتى تتضح الصورة، فيكون الحكم موضوعيا.
ما يحدث أن مجتمع «السوشيال ميديا» يتحول إلى محقق وقاض، متجاهلا أى طرف، وتصبح الشهادات الفردية أداة للإدانة، من دون مناقشة أو متابعة.
نحن هنا لا ننفى أو نؤكد صحة أى وقائع، لكن نرى خطرا فى إصدار أحكام استنادا إلى شهادة أو رواية فردية، وفى بعض الأحيان تظهر الحقيقة على غير ما هو معلن.
الشاهد، أن أدوات التواصل نفسها لم تعد هى المنصات الاجتماعية البريئة، لكنها أضحت أدوات نشر، يمكن أن تتسبب فى إيذاء أو اعتداء على خصوصية الأفراد، وأى شهادة عليها يفترض أن تعامل كجزء من رواية تتطلب استكمالها، ومن يتعرض، أو تتعرض، لعدوان أو تحرش أو ايذاء، عليهم اللجوء إلى النيابة والقضاء، وعدم الإسراع إلى مواقع التواصل، التى تتحول إلى محاكم تصدر أحكاما، ويترافع أمامها كل طرف من وجهة نظره هو، وتصبح الحقيقة هى الضحية.