كان الوقت فى ساعة مبكرة صباح 17 يوليو، مثل هذا اليوم 2010، حين وصلت طائرة خاصة أرسلها الرئيس الليبى معمر القذافى، لتقل الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، مصطحبًا معه الكاتب الصحفى عبدالله السناوى، من مطار العلمين على الساحل الشمالى بالقرب من قرية «الرواد»، حيث يقيم «هيكل» فى بيته الصيفى.
كانت الرحلة إلى العاصمة الليبية «طرابلس»، للقاء القذافى فى «باب العزيزية» حسبما يذكر «السناوى» فى كتابه «أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز»، مؤكداً: «كانت الرحلة بالذهاب والعودة فى اليوم نفسه، واستغرقت 16 ساعة، حيث جرت وقائع الحوار الأخير مع أكثر القادة العرب إثارة للجدل قبل اغتياله والتمثيل بجثته».
كان «هيكل» أول من التقى بالقذافى عند إطاحة الملك «إدريس السنوسى» فى الأول من سبتمبر 1969، و«تابع أحواله وتحولاته، وله رؤى وانتقادات مذاعة ومنشورة فى أوقاتها» وفقًا للسناوى، وتعددت اللقاءات بينهما وكان آخرها «مساء يوم الاثنين 13 مارس 1999، فى الجناح الذى نزل فيه ضيفًا رسميًا على الدولة المصرية بقصر القبة، بعد انقطاع، ولا أقول قطيعة، امتد بما زاد على ربع القرن.. خمس وعشرين سنة»، حسبما يذكر هيكل فى مقاله «حوارات مع القذافى» بمجلة «وجهات نظر- مايو 1999».
جاء «لقاء العزيزية» بعد 11 عامًا من لقاء «قصر القبة»، ويضعنا «السناوى» فى المناخ السياسى الذى أحاط بلقاء العزيزية: «لم يكن الحكام العرب يخفون ضجرهم مما وصل إليه العالم العربى من تدهور، كل واحد منهم يُحمِل الآخرين المسؤولية ويعفى نفسه منها، وكان القذافى صريحًا فيما يفكر فيه وحادًا فى انتقاداته للحكام الآخرين».
يضيف «السناوى»: «كانت هناك قمتان نوعيتان مرتقبتان فى الخريف، أولاهما اقتصادية، وثانيتهما ثقافية، قال للأستاذ هيكل هاتفيًا، وهو يدعوه إلى طرابلس، إن لديه تصورات واقتراحات لتطوير بنية الجامعة العربية، وأسلوب اتخاذ القرار فيها، ويريد أن يعرضها عليه ويسمع وجهة نظره، ولم يكن ذلك هدفه الحقيقى، وقد تحدث بلا عناية تذكر عما هو مقبل من اجتماعات عربية، ولم يخف شكوكه فى أن تصل إلى شىء، وكادت ثقته فى القادة العرب الآخرين تقارب العدم».. يؤكد «السناوى»: «بدا ساخرًا وهو يتحدث عن الحكام العرب، لكنه تحدث بهدوء وتؤدة، كأنه يقرر أحكامًا نهائية لا تستدعى انفعالًا عاطفيًا ولا سبيل إلى نفيها».
ويؤكد «السناوى»، أن «هيكل» لم يكن مقتنعًا بأن خطط القذافى لتطوير الجامعة العربية تشغله، أو هى هدفه الحقيقى من لقاء طرابلس، ويطرح على لسان هيكل السؤال: «ما الذى يريده العقيد بالضبط.. وما أسبابه الحقيقية فى هذا التوقيت؟.. يعلق: «ظل يتساءل.. والأسئلة بلا إجابات».
يكشف «السناوى» أنه لحظة إقلاع الطائرة الليبية بهما من مطار العلمين، صدرت تعليمات بمنع أى طائرة من التحليق حتى تهبط طائرة رئاسية على المدرج، ويغادر الرئيس مبارك وحرمه المكان إلى استراحة «رأس الحكمة».. يضيف: «بعد دقائق من المشهد المثير، الذى لم يكن على بال، أبلغت سلطات الأمن «مبارك» أن «هيكل» وأنا معه على طائرة خاصة فى طريقها الآن إلى طرابلس، فاتصل مبارك على الفور بالقذافى سائلا: «ما الذى يريدانه؟».
استغرب «القذافى» السؤال حسبما أبلغ «هيكل» فور وصوله.. يتذكر السناوى: «بعد السؤال المستغرب الذى لم يتوقف عنده «القذافى» ولا اهتم به «هيكل»، كان هناك سؤال آخر شغل بال العقيد الليبى عن مستقبل الرئيس المصرى نفسه، والأخبار التى تخرج من القاهرة تتحدث عن مأزق يصعب تجاوزه».. يعلق السناوى: «رغم العلاقات شبه المستقرة بين النظامين، والكلام الرسمى المعتاد عن قوتها، فإن الرجلين لم يكن أحدهما يميل للآخر، أو يكن له احترامًا.. لم يكن العقيد الليبى يخفى رغبته فى تهدئة أى توترات بالعلاقات بين البلدين فمصر دولة جارة كبيرة بغض النظر عمن يحكمها»، ومبارك تبنى رؤية مشابهة بعد سنوات طويلة من الصدام أثناء حكم سلفه «أنور السادات».
يضيف «السناوى»: «بالقرب من هبوب العواصف «25 يناير 2011»، أراد القذافى أن يعرف إلى أين تذهب مصر، وما مصير رئيسها؟ ولم يكن مستعدًا أن يطرح نفس السؤال على ما يجرى فى ليبيا، ولا ما إذا كان بقاؤه فى السلطة ممكنًا بعد أكثر من أربعين سنة فيها.
يذكر «السناوى»، أن خيمة القذافى كانت قريبة، ولكنه فضل أن يستقبل ضيفه فى حديقة تطل على أطلال بيته القديم، الذى قصفته بقسوة الطائرات الأمريكية على عهد الرئيس ريجان، وقد تحول إلى متحف ومزار قبل أن يهمل أو يستكمل هدمه.. لم تكن هناك أى مظاهر لأبهة الحكم، فأعشاب الحديقة لم تكن هذبت منذ فترة طويلة نسبيًا، وعلى مرمى النظر مواشى وإبل وأغنام وراء سور خشبى».. استمر اللقاء، فماذا جرى فيه؟