حياة المصريين.. قصة الحضارة: إبداع اليونان وروما لا يقارن بعظمة مصر القديمة

الأحد، 29 أغسطس 2021 03:00 م
حياة المصريين.. قصة الحضارة: إبداع اليونان وروما لا يقارن بعظمة مصر القديمة قصة الحضارة
كتب أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نواصل سلسلة "حياة المصريين" مع قصة الحضارة لـ ول ديورانت، والذى نستعرض معه رحلة قام بها إلى مدينة الأقصر، ذهب فى مركبة بخارية سمحت له خلال 6 أيام أن يستمتع بجو مصر قبل أن يفاجأ بعظمة الآثار وتاريخها الكبير.

يقول ول ديورانت فى قصة الحضارة:

يركب المسافر من القاهرة باخرة صغيرة تصعد فى النهر- أى تسير فيه جنوباً- سيراً بطيئاً يستمر ستة أيام تصل بعدها إلى الكرنك والأقصر وتمر على بعد ثلاثين ميلاً إلى جنوب القاهرة بموقع منف أقدم العواصم المصرية. 
فى هذه المدينة كان يحكم الملوك العظام ملوك الأسرتين الثالثة والرابعة، وقد بلغ عامرها فى أيامهم مليونين من الأنفس، والآن لا ترى العين فيها إلا صفاً من الأهرام الصغيرة وأيكة من النخل، أما ما عدا هذا فهو صحراء لا آخر لها، ورمال جرداء تغوص فيها الأقدام وتؤذى بوهجها الأعين وتسد مسام الجلد، وتغطى كل شيء، وتمتد من مراكش مخترقة طور سيناء وبلاد العرب والتركستان والتبت إلى بلاد المغول وفى هذه المنطقة الرملية التى تخترق قارتين من أكبر قارات العالم قامت مراكز الحضارة فى الزمن القديم، ثم عفت آثارها حين ارتد الجليد إلى الوراء فاشتدت الحرارة وقلت الأمطار. 
ويمتد بحَذاء النيل من البحر الأبيض المتوسط إلى بلاد النوبة شريط ضيق من الأرض الخصبة يبلغ عرضه اثنى عشر ميلاً على كلتا الضفتين انتزع من الصحراء. وهذا هو الخيط الذى كانت تتعلق به حياة مصر. ومع هذا فما أقصر ما تبدو حياة اليونان أو روما بالقياس إلى السجل الحافل فى حياة مصر الذى يمتد من مينا إلى كليوباترا!
 
وبعد أسبوع من بداية الرحلة تصل الباخرة النيلية إلى الأقصر، وفى هذا المكان الذى تقوم فيه قرى صغيرة من حولها الرمال السافية شيدت أكبر العواصم المصرية وأغنى مدينة فى العالم القديم، كانت معروفة عند اليونان باسم طيبة وعند أهلها باسم ويزى، ونى.
 وعلى الضفة الشرقية لنهر النيل يقوم الآن الفندق المعروف بقصر الشتاء "ونتر بالاس" يتوهج سياجه بزهر الجهنمية فإذا أطل المسافر على الضفة الغربية رأى الشمس تغرب من وراء مقابر الملوك فى بحر من الرمال، ورأى السماء مزدانة بصفحات براقة ما بين أرجوانية وذهبية، وتسطع فى الغرب من بعيد أعمدة هيكل الملكة حتشبسوت الفخم، إذا نظر إليه القادم من بلاد الغرب ظنه بهو أعمدة شاده اليونان أو الرومان الأقدمون. 
فإذا أصبح الصباح ركب السائح قارباً بطيئاً يعبر به النهر فوق ماء هادئ ساكن، فلا يخطر بباله أن هذا النهر بعينه ظل يجرى على هذا المنوال قروناً يخطئها الحصر. فإذا عبر النهر إلى الضفة الغربية سار فى الصحراء ميلاً بعد ميل فى طرق جبلية متربة، ماراً بقبور تاريخية قديمة حتى يصل إلى تلك الآية الفنية الرائعة، وأعنى بها هيكل الملكة حتشبسوت العظيمة، الذى ترتفع عمدُهُ البيضُ الساكنة فى وهج السماء الصافية. 
وهنا اعتزم الفنان أن يحيل الطبيعة وتلالها إلى جمال أعظم من جمالها، فشاد فى مواجهة أجراف الحجر الأعبل هذه العمَد التى لا تقل فخامة عن العمد التى أقامها أكتينوس لبركليز، وليس فى وسع من يشاهدها أن يخالجه شك فى أن اليونان قد أخذوا فنون عمارتهم عن هذا الشعب المبدع المبتكر، ولعلهم أخذوها منه عن طريق جزيرة كريت. 
وعلى جدران هذا المعبد نقوش غائرة تنبض بالحياة والحركة والفكر وتقص قصة أولى نساء التاريخ العظيمات وملكة ليست أقل ملكاته شأناً. ويشاهد المرء فى طريقه وهو راجع تمثالين كبيرين يمثلان أعظم ملوك مصر تنعماً، وهو الملك أمنحوتب الثالث، ويسميهما الرحالة اليونان خطأ " تمثالى ممنون ". 
ويبلغ ارتفاع الواحد منهما سبعين قدماً، ويزن سبعمائة طن وهو منحوت من كتلة حجرية واحدة، وعلى قاعدة أحدهما نقش خطته يد السياح اليونان الذين زاروا هذه الآثار منذ ألفى عام، وهنا أيضا تتضاءل الدهور تضائلاً غريباً ويبدو هؤلاء اليونان فى حضرة هذين التمثالين العظيمين معاصرين لنا نحن، وعلى بعد ميل منهما جهة الشمال آثار حجرية من عهد رمسيس الثاني، وهو شخصية من أروع الشخصيات فى التاريخ، ويبدو الإسكندر الأكبر إلى جانبه إنساناً لا قيمة له ولا خطر. 
لقد عاش هذا الملك تسعة وتسعين عاماً جلس منهما على عرش مصر سبعة وستين، وأنجب من الأبناء مائة وخمسين، وتراه هنا تمثالاً كان ارتفاعه فى يوم من الأيام ستا وخمسين قدماً، أما الآن فيمتد على الأرض بين الرمال ستاً وخمسين يسخر منه الغادون والرائحون. وقد حرص علماء نابليون على قياس كل جارحة فيه فقدروا طول أذنه بنصف قدم وعرض قدمه بخمس أقدام وقدروا وزنه بألف طن، وكان حقاً على نابليون أن يحييه بما حيّا به الفيلسوف جوته فيما بعد إذ قال : "هاهو ذا الرجل!"
 
ومن حولنا فى هذا المكان على شاطئ النيل الغربى مدينة الموتى حيث كشف علماء الآثار المصرية المنقبون فى كل ناحية من نواحيها قبراً لملك من الملوك. ولقد كان قبر توت عنخ آمون فى أثناء زيارتى مغلقاً، مغلقاً حتى فى وجه من كان يظنون أن الذهب تفتح له جميع الأبواب.
 
أما قبر سيتى الأول فمفتوح، وهنا فى الأرض الظليلة المائلة إلى البرودة يستطيع السائح أن يبصر سقفاً وطرقات منقوشة ويعجب بما كان للصناع فى ذلك العهد من مهارة، وما كان فى البلاد من ثروة استطاعت بهما أن تنشئ أمثال هذه التوابيت الضخمة، وأن تحيطها بهذا الفن الرائع. ولقد شاهد المنقبون فى أحد هذه المقابر آثار أقدام العبيد الذين حملوا جثة الملك المحنطة ليودعوها مقرها الأخير منذ ثلاثة آلاف عام(6).
 
وهذا ما يشاهده السائح على الضفة الغربية. أما الضفة الشرقية فهى مزدانة بأحسن الآثار وأجملها: ففى الأقصر القائمة على هذه الضفة بدأ أمنحوتب العظيم يقيم صرحه الضخم مستعيناً بالمغانم التى أفاءتها على مصر فتوح تحتمس الثالث. ولكن المنية عاجلته قبل أن يتمه، فوقف العمل مائة عام كاملة حتى جاء رمسيس الثانى وأتمه بما يليق بالملوك من أبهة. ولا يكاد المرء ينظر إلى هذا البناء حتى تغمره روح فن العمارة المصرية التى لا تقتصر مزاياها على السعة والقوة بل تجمع إليهما الجمال الرائع ودلائل الرجولة السامية. لقد كان فى هذا الصرح بهو عظيم فسيح الأرجاء تغطيه الآن الرمال، ولكن أرضه فى الأيام الخالية كانت كلها من الرخام، وتقوم على ثلاثة من جوانبه عمَد فخمة لا تضارعها إلا عمد الكرنك وحدها. وفى كل جهة حجارة عليها نقوش غائرة وتماثيل تنم عن العظمة حتى بعد أن عدت عليها عوادى الزمان فليتمثل القارئ ثمانية أعواد طويلة من أعواد البردي- مهد الكتابة ولكنه هنا طراز من طرز الفن؛ ومن تحت أزهارها التى لا تزال فى أكمامها خمسة أربطة قوية تشد هذه الأعواد فتجمع بين الجمال والقوة، وليتصور بعدئذ أن هذه الحزمة كلها من صخر أصم. تلك هى العمد المقامة فى الأقصر على هيئة نبات البردي. وليتصور القارئ بهواً مشيداً كله من هذه العمد مرفوعة عليها دعامات ضخمة وأكنان ظليلة. ليتصورها القارئ بالصورة التى تركتها عليها عوادى ثلاثين قرناً؛ ثم ليحكم بعدئذ على أقدار الرجال الذين استطاعوا فى ذلك العهد السحيق الذى كنا نسميه طفولة المدنية أن يفكروا فى هذه الآثار العظيمة ثم يخرجوا أفكارهم إلى حيز الوجود.
 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة