يعد الشاعر الإنجليزى بيرسى شيلى واحدا من أشهر الشراء الإنجليز، ويقول عنه كتاب "أرواح شاردة" للشاعر الكبير على محمود طه، ولد هذا العبقرى عام 1792 ومات غريقًا فى ليجهورن بإيطاليا عام 1822، وإن الثلاثين عامًا التى عاشها لتتضاءل أمام نضجه الفنى وإنتاجه الغزير الحافل بأسمى النماذج الشعرية فى قصائده الرائعة.
ويعد بحق الشاعر الفرد الذى يتقدم وحده الشعراءَ نوابغ الأعمار فى جميع الأجيال حتى اليوم، ويتفرد شعره بهذه الموسيقى المرحة الطلقة الصافية التى تُوصَفُ بالقيثارة التى أيقظت أعذب الأنغام فى قلب الحياة والتى انتزعت الرقة والحلاوة من جفاء الزمن وقساوته، ولكن المدرسة الحديثة تعتبره أعظم الشعراء المتصوِّفة فى الإنجليزية بعد وليم بليك.
وقصائده الثلاث فى السحابة، والرياح الغربية، والقُبَّرَةِ، من أشهر الغنائيات فى عالم الشعر. ولما كانت القصيدة الأخيرة من أحفلها بصور الخيال والجمال التى لا مشبه لها، فقد آثرتُ نقلها إلى العربية غير مجترئ على معانى الشاعر وأفكاره وسياقه الشعرى بشيء من الحذف، بل مضيفًا ما يقتضيه إظهار المضمر من المعنى وتبسيط المركب من الخيال مراعيًا فى التعبير عن الأصل الإنجليزى ما توحى به مقتضيات البيان الشعرى العربي، وجامعًا ما أمكن بين الاثنين.
يا أيها الرُّوحُ يهفو حوله الفرحُ تحيَّةً أَيُّهذا الصادحُ المرحُ
من أمة الطير هذا اللحنُ ما سَمِعتْ بمثله الأرضُ، لا روضٌ ولا صَدَحُ
أنت الذى من سماءِ الروح منهُلُه خمرٌ إلهيةٌ لم تَحْوِهَا قَدَحُ
يفيضُ قلبُك ألحانًا يُسلسلها فَنٌّ طليقٌ من الوجدان منسرحُ!
وعاليًا، عاليًا، لا زلتَ منطلقًا عن الثرى، تَصِلُ الآفاقَ آمادا
مثل السحابة من نارٍ مُسَعَّرة، والبرقِ مؤتلقًا، والنجم وقَّادا
يهفو جناحاك فى أعماق زرقتها وأنت تضرب فى الآفاق مرتادا
تشدو فتمعِنُ فى أجوازها صُعُدًا فإن عَلَوْتَ بها أمعنتَ إنشادا
ومائجٍ ذَهبى النُّور قد غرقتْ فى ذَوْبِه الشمسُ عَبْرَ العالم الثاني
تُوَهِّجُ السحَب البيضاءَ حمرتُه فتستحيل عليها ذات ألوان
أشعةٌ ذات أمواجٍ غَدَوْتَ بها تطفو وترسبُ فى لُجيِّها القاني
كأنما أنت جذلانًا تراوحنا روحٌ من الطِّرَب العلوى نوراني
تذوبُ حولك إمَّا طِرْتَ فى أفقِ غلالةُ الأرجوان الشاحب الساجي
كنجمة فى سماء الليل خافقة تذوبُ فى فَلَقٍ للصبح وهَّاج
يا من تُطرِّبنى ألحانُ غبطته وما رأيت له طيفًا بمعراج
ألاَّ أراكَ فإنى سامعٌ نغمًا يهفو إلى بإطراب وإبهاج
وصاعدًا فى مضاءِ السهم أرسله قوسٌ من الكوكب الفضى منزعُه
ينأى فيخبو رويدًا وهْجُ شعلتِه حتى يُلاشى كأنَّ الفجرَ يتبعه
وترسل العينَ ترعاه هنا وهنا وما يبينُ لنا من أين مطلعه!
حتى إذا عزَّنا المرأى وأجهدنا دلَّ الشعور على أنْ ذاك موضعه!!
هذى السماءُ بموسيقاكَ مائجةٌ والأرضُ يغمرها من صوتكَ الطربُ
وصفحة الليل أصفى ما يكون سوى غمامة خلَّفَتها وحدها السحبُ
وقد بدا القمرُ الوضَّاحُ يُمطرها أرسالَ ضوءٍ على الآفاق تنسكبُ
يرمى السمواتِ سيلٌ من أشعتها تكاد تسبحُ فى طوفانه الشهبُ
من أنت! يا من يجوب الليل منفردًا ولم تقعْ لى عليه بعدُ عينانِ؟
أى الخليقة قل لى هل أنت تشبهُه وأيها منك فى أوصافه داني؟
وهذه السُّحبُ أصباغًا مشكلةً فى رائع من فريد اللون فتَّان
لا ينزل الغيثُ منها مثلما نزلتْ شتَّى أغانيك فى سحرى ألحان!
كشاعرٍ فى سماء الفكر مختبئٍ دلَّ الوجودَ عليه لحنُه العالي
ألحان أغنية أمسى يرتلها كمرسلٍ من نشيد الخلد سيَّال
أسَلْنَ بالعالم السالى خوالجُه حتى استحال شجونًا قلبُه الخالي
بَعثنَ من ألمٍ فيهِ ومن أملٍ ما لم يكنْ منه فى يوم على بال
كأنَّ حوريةً فى ظلِّ شاهقة من البروجِ تقضِّى العيش فى خُلسِ
لم يُغمض النومُ عينيها ولا خمدَتْ نيرانُ قلب لها فى فحمة الغلسِ
باتتْ تلطِّف آلامًا تساورها فى عزلة بنشيدٍ ساحرِ الجرس
تطوفُ ألحانُ موسيقاهُ مخدعها كأنهُ الحبُّ فى إيقاعه السَّلسِ
كأنّ بين الرُّبا التَفَّتْ خمائلُها فراشة من سبيكِ التبر جَلواءُ
يا حسنَ أجنحةٍ منها مذهبة قد رقَّشتها من الأسحارِ أنداءُ
تُرِى السماءَ صفاءً فهى إنْ خطرتْ فللسماءِ بهذا اللون إغراءُ
تجلو الأزاهرَ والأعشابَ طلعتُها إذا بدتْ ولها فيهن إخفاءُ
كزهرة الحقلِ فى غيناء سرحتها لم يملأ النورُ منْ أجفانها حدَقا
حتى إذا لفحتها الريحُ هاجرةً زكتْ وأربتْ على أملودها ورقَا
وأرَّجَ الحقلَ من أنفاسها عبقٌ يشوقُ كلَّ جناحٍ نحوها خفقا
تهفو إليها من الأنسامِ أجنحةٌ منْ كلِّ مُنطلقٍ من عطرِها سرقا
ووقعُ لحنك فى الأسحار أرخم من وقع الندى فوق أعشاب البساتين
قد نقط الزَّهَرَ المنضورَ سلسلُه وجاد بالطلِّ أفوافَ الرياحين
يا منْ علا صوته فى الأفق منسجمًا تصحو الأزاهرُ فى أفنانها الغينِ
كلُّ البدائع مهما افتنَّ مبدعُها لم تعْدُ لحنَك فى صوغٍ وتلحين
قل لى أمن ملكوت الروح منطلقٌ أم طائرٌ أنت فى الآفاق هيمانُ؟
أى الخواطر من حسن ومن بهج يشيعها منك فى الأرواح وجدانُ؟
لم تشرئبَّ قلوبٌ من أضالعها لغير صوتك أو تنصبُّ آذانُ
حديثُ حبٍّ وخمرٍ بات يسكبُه من جانب الله أنغام وألحانُ!!
من أين تلك الأغانى أنت ترسلها؟ من أى مطَّرِد الينبوع منسجم؟
من أى ثائرة الأمواج زاخرةٍ؟ وأى تلك المروج العذبة النسمِ؟
من أى ضاحِيةِ الآفاق صاحيةٍ؟ أى السهولة والأغوار والقممِ؟
وأى حبِّ أليفِ منك أو وطنٍ؟ وأى جهلٍ لما نلقاه من ألمِ؟
وفى منامك والآفاقُ حالمةٌ وفى انتباهك والظلماءُ إصغاءُ
لا بُدَّ من نبأٍ للموت تعرفُه وفى فؤادك عنه اليوم أشياءُ
لَأنت أعمق فكرًا فى حقائقه بما نراه ونحن اليوم أحياءُ
أو لا! فكيف انسجام اللحن مضطردًا يُجريه من رائق البللور لألاءُ؟!
إنّا نفكر فى ماضٍ بلا أثَرٍ ومُقبلٍ من حياةٍ كلها غيبُ
ومستحيلٍ نرجِّى برقَ ديمته وكلُّ ما نرتجيه منه محتلبُ
وكم لنا ضحكاتٌ غيرُ صادقة ما لم يشبْ صفوها التبريح والوصَبُ
وإنَّ أشهى الأغانى فى مسامعنا ما سالَ وهو حزينُ اللحن مكتئبُ!
هبنا على رغم هذا ليس يجمعنا بالحقد أو كبرياء النفس أوهاقُ
فلا القلوبُ لدى البأساءِ جازعةٌ ولا بهنَّ إذا روَّعن إشفاقُ
وأننا قد درجنا فى خليقتنا بلا دموعٍ تذرِّيهنَّ آماقُ
فكيف كنا إذن نلقاكَ فى فرحٍ! أويغمر الروحَ لحنٌ منك رقراقُ؟!
يا أعذبَ الطير موسيقى وأروعها من كلِّ رائق أنغام وألحانِ
ويا أعزَّ لنا من كلِّ ما جمعت نفائسُ الكتب من دُرِّى تبيانِ
يا ما أحقَّ اقتدارًا منكَ قدرتُه بشاعر لبقِ التصوير فنَّانِ
أنت المبرَّأُ فى حبٍّ وعاطفة يا من تعاليتَ عن أرضٍ وإنسانٍ
أما تُعلمنى مما يفيضُ به غناؤكَ العذبُ تطرابًا وتحنانا!
ذاكَ الجنونُ الذى يُهدى توافقه إلى من صَدحات الخلدِ ألحانًا!
ألستَ تُلهمنى وحيًا يفيض به فمي، فأملأُ قلبَ الكون إيمانا!
أشدو فيُلقى إلى الكونُ مِسمعُه يصغى إلى كما أُصغى لك الآنا!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة