صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور هيثم الحاج على، كتاب "بين الثقافة والسياسة" تأليف الدكتور محمد صابر عرب، وزير الثقافة الأسبق، وهو عبارة عن مجموعة مقالات فكرية وثقافية كتبها المؤلف على مدى عشر سنوات، وموضوعاتها تنطلق من الواقع الثقافى بكل ما يحمله من آلام وآمال، ومشكلات ومحاولات للحل فى المقابل.
ويستمد الكتاب عنوانه من تحليل الكاتب لبعض الأحداث السياسية الكبرى فى تاريخنا الحديث، ومنها ثورة يوليو التى يدعو لإعادة فتح ملفها بشكل علمى قائم على الرصد والاستقراء التاريخى، بعيدًا عن الأحكام المطلقة والكلام المرسل الذى يطلقه بعض محبى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وبعض المناهضين لثورة يوليو.
ويطلعنا الكاتب على سبب كتابته لهذه المقالات الفكرية، فقد جاء اهتمامه بتاريخ الفكر من باب تخصصه الدقيق بوصفه أستاذًا للتاريخ، ثم اهتمامه الخاص بالرؤى والأفكار الإنسانية عمومًا، والمتعة التى يشعر بها فى قراءة الفكر الإنسانى عبر كتب مرجعية موثقة يتيحها له اطلاعه المستمر بحكم دراسته التى لا تنقطع للتاريخ، ومن ضمن الأسباب إيمان الكاتب بمفهوم وحدة المعرفة فالعلوم كلها منظومة متصلة ومترابطة، والتاريخ لا ينفصل عن الفكر والفن، وذلك أنه يرصد تفاصيل حياة البشر بكل جوانبها، ومن المهم جداً للمؤرخ أن ينفتح على معظم مجالات المعرفة من العلوم والفنون والآداب.
ومن هذا المنطلق يخبرنا الدكتور عرب أنه قرأ كثيرًا لرواد الفكر والفن، بدايةً من: "دانتي" و"ميكيافيللي" و"توماس مور" و"جان جاك روسو"، وصولاً إلى كتابات عربية لمفكرين وفلاسفة ومؤرخين وأدباء عرب، كلهم أضافوا لثقافتنا العربية، ومنهم على سبيل المثال: رفاعة رافع الطهطاوي، ومحمد عبده، وعبد المتعال الصعيدي، وطه حسين والعقاد، ومحمد حسين هيكل ونجيب محفوظ.
ويفرد الدكتور صابر عرب مساحة كبيرة من الكتاب لقضية "العقل والتفكير العلمي" ويطالب بإعادة قراءة التراث الديني، وأن يتصدى الأزهر الشريف لدراسة وتحقيق الأحاديث النبوية لتمييز الصحيح من السقيم، والتصدى لسيل الحكايات التراثية التى لا تستقيم مع العقل أبدًا.
كما يدعو إلى رد الاعتبار للفقيه "أبى إسحاق الشاطبي" الذى قدم رؤية متكاملة للإسلام عقيدةً وشريعة؛ وخصوصًا فى كتابه الشهير "الموافقات" وكان فهم اللغة عند الشاطبى هو الأصل الأول والمفتاح لفهم القرآن الكريم والتعرف إلى مقاصده، وقد أكد الشاطبى أن الشريعة ليست مجموعة من التكاليف المجردة بل إن هدفها الأول والأخير إقامة المصلحة فى الدين والدنيا.
ويتسائل الكاتب: أليس من المناسب اتخاذ كتاب "الموافقات" للشاطبى ليكون مرجعًا لفهم الشريعة بعيدًا عن الأدعياء المتطفلين على موائد الشريعة؟.
ثم يركز الكاتب على الدور الرائد الذى قام به المصلح الإمام "محمد عبده" والذى كان ينصح طلابه بالرجوع إلى كتاب "الموافقات" وهذا ما يفسر لنا تميز محمد عبده ومدرسته فى فهم مقاصد الشريعة، وكيف ركز على مفهوم "المصلحة".. ويؤكد الكاتب أن الإسلام العظيم قد ظلمه أهله حينما عجزوا عن توصيل رسالته بمعانيها الروحية الرحبة المتسامية.
ويوضح لنا الكاتب أن السر وراء حضور الإمام "محمد عبده" اللافت فى مقالاته الفكرية الذى يكمن فى امتلاك هذا الرجل لمشروع إصلاحى متكامل ومنظم قوامه التعليم وإعمال العقل ومراعاة الحقوق السياسة والاجتماعية فى إطار ما يمكن تسميته بفقه الحياة، والذى ينبنى على رؤية علمية دقيقة تقوم على العقل وتمحيص التراث ومحاربة الخرافة ومقاومة البدع التى ظنها الناس إسلامًا وهى دخيلة على الإسلام.
وإلى جانب المواضيع الفكرية ذات الطابع الديني، يضم الكتاب مواضيع تاريخية موثقة عن دخول العثمانيين إلى مصر، وفلسفة البطل عند المؤرخ والفيلسوف البريطانى "توماس كارليل" مع استقراء لواقع النشر فى عالمنا العربي، وتحليل ظاهرة غياب القراءة بين المواطنين العرب، ومقال خاص عن "مقهى ريش" ودورها فى الثقافة المصرية والنضال الوطني، ومحاولة للإجابة على السؤال الذى لم ينتهِ بعد: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ ولاشك أن الإجابة تشمل عدة أسباب؛ حيث الفارق بين الأمتين أكبر من مجرد نقطة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة