تحل اليوم ذكرى ميلاد الكاتب والمترجم محمد خليفة التونسى، إذا ولد فى مثل هذا اليوم 10 سبتمبر من عام 1915م، والذى قام بأول ترجمة عربية كاملة لـ"بروتوكولات حكماء صهيون"، وهو من تلامذة المفكر الكبير عباس محمود العقاد وقد قام بالتقديم لكتابه هذا، فماذا قال فى تقديمه للكتاب؟.
غلاف الكتاب
ظهرت أخيرًا في اللغة العربية نسخة كاملة من هذا الكتاب العجيب : کتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"، ومن عجائبه أن تتأخر ترجمته الكاملة في اللغة العربية إلى هذه السنة، مع أن البلاد العربية أحق البلاد أن تعرف عنه الشيء الكثير في ثلث القرن الأخير، وهي الفترة التي منيت فيها بجرائر: "وعد بلفور" وبالتمهيد لقيام الدولة الصهيونية على أرض فلسطين.
إن هذا الكتاب لا يزال لغزًا من الألغاز في مجال البحث التاريخي وفي مجال النشر والمصادرة، فقلما ظهر في لغة من اللغات إلا أن يعجل إليه النقاد بعد أسابيع أو أیام من ساعة ظهوره، ولا نعرف أن دارًا مشهورة من دور النشر والتوزيع أقدمت على طبعه مع تكاثر الطلب عليه، وكل ما وصل إلينا من طبعاته فهو صادر من المطابع الخاصة التي تعمل لنشر الدعوة ولا تعمل لأرباح البيع والشراء.
ومن عجائب المصادفات على الأقل أن تصل إلي يدي ثلاث نسخ من هذا الكتاب في السنوات الأخيرة: كل نسخة من طبعة غير طبعة الأخرى، وكل منها قد حصلت عليه من غير طريق الطلب من المكتبات المشهورة التي تعاملها.
أما النسخة الأولى فقد اعارنى اياها رجل من قادتنا العسكريين الذين يتبعون نوادر الكتب في موضوعات الحرب وتدبيرات الغزو والفتح وما إليها، وقد اعدتها إليه بعد قراءتها ونقل فصول متفرقة منها .
وأما النسخة الثانية فقد اشتريتها مرجوعة مقطوعة لا يعلم بائعها ما اسمها وما معناها، وقد ضاعت هذه النسخة وأوراق النسخة وأوراق النسخة المنقولة مع كتب وأوراق أخرى اتهمت باختلاسها بعض الخدم في الدار.
وأما النسخة الثالثة وهي من الطبعة الإنجليزية الرابعة فقد عثرت عليها في مخلفات طبيب کیبر، وعليها تاريخ أول مايو سنة 1921 وكلمة "هدية" بالفرنسية Souveni و كدت اعتقد من تعاقب المصادفات التي تتعرض لها هذه انسخ أنها عرضة للضياع.
والترجمة العربية التي بين أيدينا اليوم منقولة من الطبعة الإنجليزية الخامسة نقلها الأديب المطلع والأستاذ محمد خليفة التونسى، وحرص على ترجمتها بغير تصرف يخل بمبناها ومعناها فأخرجها في عبارة دقيقة واضحة وأسلوب فصيح وسليم.
صدر المترجم الفاضل لهذا الكتاب الجهنمي مقدمة مستفيضة قال فيها عن سبب وضعه أن زعماء الصهونيين "عقدوا ثلاثة وعشرين مؤتمرًا منذ سنة 1897 و كان آخرها المؤتمر الذي انعقد في القدس لأول مرة في 14 أغسطس سنة 1951"، ليبحث في الظاهر مسألة الهجرة إلى إسرائيل و مسالة حدودها كما جاء بجريدة الزمان - وكان الغرض من هذه المؤتمرات جميعًا دراسة الخطط التي تؤدي إلى تأسيس مملكة صهيون العالمية، وكان أول مؤتمراتهم في مدينة بال بسويسرا سنة ۱۸۹۷ برئاسة زعيمهم هرتزل، وقد اجتمع فيه نحو ثلثمائة من اعتى حكماء صهيون كانوا يمثلون خمسين جمعية يهودية، وقرروا فيه خطتهم السرية لاستعباد العالم كله تحت تاج ملك من نسل داود، ثم أجمل الأستاذ المترجم ما اشتملت عليه فصول الكتاب من شرح الخطط المتفق عليها، وهي تتلخص في تدبير الوسائل للقبض على زمام السياسة العالمية من وراء القبض على زمام الصيرفة، وفيها تفسير للمساعي التي انتهت بقبض الصيارفة الصهونيين على زمام الدولار في القارة الأمريكية ومن ورائها جميع الأقطار، وتفسير إلى جانب ذلك للمساعي الأخرى التي ترمي إلى السيطرة على المعسكر الآخر من الكتلة الشرقية، وانتهت بتسليم ذلك المعسكر إلى أيدي أناس من الصهيونيين أو الماديين الذين بنوا بزوجات صهيونيات يعملن في ميادين السياسة والاجتماع.
وتتعدد وسائل الفتنة التي تمهد لقلب النظام العالمي وتهدده في کيانه بإشاعة الفوضى والإباحة بين شعوبه وتسليط المذاهب الفاسدة والدعوات المنكرة على عقول أبنائه، وتقويض كل دعامة من دعائم الدين أو الوطنية أو الحلق القويم.
ذلك هو فحوى الكتاب و حملة مقاصده ومراميه، وقد ظهرت طبعته الأولى منذ خمسين سنة، ونقلت من الفرنسية إلى الروسية والانجليزية وغيرها من اللغات، وثارت حولها زوابع من النقد والمناقشة ترددت بين الآستانة وجنيف وبروکسل وباريس ولندن وأفريقية الجنوبية، وشغلت الصحافة والقضاء ورجال المتاحف والمراجع، وصدرت من جرائها أحكام شتی تنفي تارة وتثبت تارة أخرى، ثم اختفى الكتاب كما قدمنا ولا يزال يختفي كما ظهر في إحدی اللغات.
ويتقاضانا أنصاف التاريخ، أن نلخص هنا ما يقال عنه من الوجهة التاريخية نقدًا له وتجريحًا لمصادره، أو إثباتا له، وترجيحًا لصدقه في مدلوله.
فالذين ينقدونه ويشككون في صحة مصادره يبنون النقد على المشابهة بين نصوصه ونصوص بعض الكتب التي سبقت ظهوره بأربعين سنة أو بأقل من ذلك في أحوال أخرى. ومنها حوار بين مكيافيلي ومنتسكیو يدور حول التشهير بسياسة نابليون الثالث الخارجية، ومنها قصة ألفها كاتب ألماني يدعی هرمان تجودشي ضمنها حوارا تخيل انه سمعه في مقبرة حبر من أحبار اليهود بمدينة براغ دعي إليها مؤتمر الزعماء الذين ينوب كل واحد منهم على سبط من أسباط إسرائیل .
ويعتمد الناقدون أيضا على تكذيب صحيفة التيمس للوثائق بعد إشارتها إليها عند ظهورها إشارة المصدق المحذر مما ترمي إليه.
أما المرجحون لصحة الوثائق أو لصحة مدلولها فخلاصة حجتهم أنها لم تأت بجدید غير ما ورد في كتب اليهود المعترف بها ومنها التلمود وکتب السنن اليهودية، وغاية ما هنالك أن التلمود قد أجملت حيث عمدت هذه الوثائق إلى التفصيل والتمثيل.
ويقول الصحفي الإنجليزي شترتون ، A. K. Chesterton في مناقشته للكاتب الإسرائيلي لفتوتش Leftvich أقوالا مختلفة لتعزيز الواقع المفهوم من تلك البروتوكولات، خلاصتها أن لسان الحال أصدق من لسان المقال، وأن مشيخة صهيون أو حكماء صهيون قد يكون لهم وجود تاريخي صحيح، أو يكونون جميعا من خلق التصور و الخيال، ولكن الحقيقة الموجودة التي لا شك فيها أن النفوذ الذي يحاولونه ويصلون إليه قائم ملموس الوقائع والآثار.
قال في المجموعة التي نشرت باسم "فاجعة العداء للساميين"، أن المارشال هايج، سمع باختياره للقيادة العامة من فم اللورد د روتشيلد، قبل أن يسمع به من المراجع الرسمية وأن بیت روتشیلد خرج بعد معركة واترلو ظافرًا كما خرج زملاؤه وأبناء جلدته جميعا ظافرين بعد الحرب العالمية الأولى والثانية.
وأنه لا يوجد بيت غير بيت روتشيلد له أخوة موزعون بين لندن وباريس و برلين ، وبدأ كلامه قائلا: أنني من جهة يبدو لي أن البروتوكولات تستوي روحيا على نفس القاعدة التي استوت عليها فقرات من كتاب التلمود تنزع إلى رسم العلاقات التي يلتزمها اليهود مع عالم الأمم أو الغرباء، وأنني من جهة أخرى لا أعرف أحدا يحاول أن يزعزع عقائد اليهود في دينهم إلا کفرض من أغراض التبشير العامة، ولكني أعرف كثيرا من اليهود الذين يعملون على تحطيم يقين الأمم بالديانة المسيحية.
ونستطيع نحن أن تضيف إلى قول شترتون أقوالا كثيرة من قبيلها وفي مثل معناها واستدلالها . فهذا الدولاب الهائل الذي دار على حين فجأة من الآستانة إلى أمريكا إلى أفريقيا الجنوبية لتنفيذ البروتو کرلات شاهد من شواهد العصبة العالمية التي تعمل باتفاق في الغاية، إن لم تعمل باتفاق في التدبير، وهذه الثقة التي تسمح لصعلوك صعاليك العصابات أن يهدد سفير الولايات المتحدة ويكلفه أن ينذر حكومته عما سوف يحل بها إذا خالفت هوی العصابة، شاهد آخر من شواهد تلك السطوة العالمية التي تملى أوامر على الرؤساء والوزراء من وراء ستار، وهذه الشهوة العالمية والتي يلعب بها الصهيونيون ون لإغراء ضعاف الكتاب شاهد آخر من شواهد أخرى لا تحصى، فلم يترجم كتاب عربى قط لكاتب تناول الصهيونية بما يغضبها في وقت من الأوقات.
ولست أذهب بعيدًا وعندي الشواهد من كتبي التي ترجمت إلى الفرنسية والانجليزية، ونشرت فصولا منها في مجلات مصر وأوروبا، فقد توقف طبعها بعد التعب في ترجمتها - لأنني كتبت وأكتب ما يفضح السياسة الصهيونية، وقد تحدثت إلى فتاة من دعاتهم في حضرة صديق بقيد الحياة فجعلت توميء، إلى مسألة الترجمة، وتسألني سؤال العليم المتغابيء "عجي لمثلك تلك كيف لا تكون مؤلفاته منقولة إلى جميع اللغات".
سألتني هذا السؤال و هي فيما أظن لا تصدق أن الشهرة العالمية على جلالة قدرها شيء نستطيع أن نحتقره إذا قام على غير أساسه وأصبح ألعوبة في إيدي السماسرة والدعاة، فقلت لها: ان بلوتارك قد سبقني إلى جواب هذا السؤال". فعادت تسأل: وماذا قال؟ قلت: "روى على لسان بطل من أبطال الرومان أنه سئل: لماذا لا يقيمون لك تمثالا بين هذه التماثيل؟ فأجاب سائله: لأن تسألني سؤالك هذا خير من أن تسألني: لماذا أقيم لك هذا التمثال ؟".
وأغلب الظن بعد هذا كله على ما ترى أن البروتوكولات من الوجهة التاريخية محل بحث كثير، ولكن الأمر الذي لا شك فيه كما قاله شسترفیلد: أن السيطرة الخفية قائمة بتلك البروتوكولات أو بغير تلك البروتوكولات.