عندما تلقيت دعوة للكتابة عن ستينية صديق الرحلة الشاعر إبراهيم داود لم أنصت لفعل الزمن كما ينبغى، ربما لأننى لا أكاد أصدق أن ثمة محطة يجب أن تتوقف عندها تجربة باذخة كتلك التجربة. فعندما نقرأ تجربة داود فنحن نقرأ خرافة يصنعها الجمال كما صنعته العرائس الشقراوات على ضفاف نهر الراين من أجل عيون " أبو لينير". لكن عرائس إبراهيم تبدو أكثر رقة ورهافة، لأنها الأكثر معرفة بالناس. عرائس إبراهيم تأخذ منه بساطته وعفويته، لغته التى تخاصم لغة المجامع وتأخذ سحريتها من غناء الفلاحين وعمال المصانع والصيادين. إبراهيم شاعر له أهل. ولأنه يحبهم ويؤمن بخرافة قوتهم وسحر ضحكاتهم وربقة أحزانهم فإنهم لا يغادرون شعره. هم مقيمون أبدا. ومع تلك البساطة الآسرة التى تشبه ضحكات إبراهيم، وتشبه هزله وجده، لم يقع أبدا فى الوعظة الأخلاقية، كما لم تخمد شعلته نيران معلميه الأوائل. إبراهيم يحب معلميه لكنه يحدد بدقة مساحة وجودهم فى شعره. هكذا يكون الشاعر المخضرم الذى عرك كل الأشكال الشعرية، وأجاد فى جميعها. إبراهيم ليس كغيره من شعراء الفردانية رغم أنه يبدو من دعاتها. الفارق بسيط جدا، لكنه رقيق عذب مثل عرائسه الجميلات.
فإبراهيم لا يتصنع جمالا خارج حدود التصور، لذلك تأخذ لغته سحريتها من كون تخييلاته ومجازاته وجنونه عناصر قابلة للتصديق.
الفردانيون عادة ما يرون الجمال فى أن تكون الكتابة على حافة المحنة الشخصية، لكن الشاعر الحقيقى، وداود هنا مثال، هو الذى تستحيل معه تلك الجمالية من ذات إلى موضوع. هنا فقط يصبح شاعر الناس، يصبح كبيرهم. وإبراهيم بهذا المنطق وبغيره شاعر كبير.
إبراهيم رفيق الرحلة وشريك تلك الطريق الوعرة، مناضل بطريقته، رغم ما يبدو من لين جناحه، وأناقة غدوه ورواحه. هذا المثقف الذى تغلبه الفطرة، أعنى تغلبه البراءة، لم يلوث يديه أبدا بقضايا العرفانية، رغم أنه كثيرا ما يسلك سلوك العرفانيين وإن شئت قل "أهل الخطوة". فهناك شعراء لا يهتمون بفهم بواعث نصوصهم، لأنهم يدركون أن المعرفة الحاذقة بذواتهم هى الطريق إلى الصنمية والوظيفية. وأعتقد أن ابراهيم واحد من هؤلاء الذين يعرفون لكنهم غير مشغولين بالمعرفة، فلم يجلس شاعرنا ذات مرة ليقول لنفسه كيف أكتب نصا يشبه ما يحدث فى العالم. فالعالم الواسع لا يخصه، هو يملك رموزه المشتركة، يملك لغته الهشة اللينة كجناح الطير، والشعر بالنسبة لداود لا يستبدل السحر بحفنة من العملات المنطقية كما يقول بورخيس لأنه معنى، كما سبق أن أسلفت، بإعادة اللغة إلى النبع الذى تشكلت فيه على هيئتها الأولى.
إبراهيم داود فى ستينيته يبلغ مرتقاه الذى دفع حياته من أجله. فهو اليوم واحد من أهم شعراء العربية كما هو واحد من الذين حفروا نهرا عميقا لقصيدة النثر تعمدت فيه بلغة وعوالم لا تشبه إلا إبراهيم داود .
كل سنة وأنت كبير القامة والقيمة يا إبراهيم .. يا صاحبى .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة