توالت الأحداث فى الدولة الإسلامية، وجاءت سنة 75 هجرية، وعبد الملك بن مروان قد انفرد بحكم الدولة، ولكن العراق كانت لا تزال تسبب له المتاعب، لذا بعد موت بشر بن مروان أرسل إلى أهل العراق الحجاج بن يوسف الثقفى، فما الذى يقوله التراث الإسلامي؟
يقول كتاب البداية والنهاية تحت عنوان "ثم دخلت سنة خمس وسبعين"
وفيها غزا محمد بن مروان - أخو عبد الملك بن مروان، صائفة الروم حين خرجوا من عند مرعش، وفيا ولى عبد الملك نيابة المدينة ليحيى بن الحكم بن أبى العاص، وهو عمه، وعزل عنها الحجاج.
وفيها ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف نيابة العراق والبصرة والكوفة وما يتبع ذلك من الأقاليم الكبار، وذلك بعد موت أخيه بشر، فرأى عبد الملك أنه لا يسد عنه أهل العراق غير الحجاج لسطوته وقهره وقسوته وشهامته، فكتب إليه وهو بالمدينة ولاية العراق، فسار من المدينة إلى العراق فى اثنى عشر راكبا، فدخل الكوفة على حين غفلة من أهلها وكان تحتهم النجائب، فنزل قريب الكوفة فاغتسل واختضب ولبس ثيابه وتقلد سيفه وألقى عذبة العمامة بين كتفيه، ثم سار فنزل دار الإمارة، وذلك يوم الجمعة وقد أذن المؤذن الأول لصلاة الجمعة، فخرج عليهم وهم لا يعلمون، فصعد المنبر وجلس عليه وأمسك عن الكلام طويلا، وقد شخصوا إليه بأبصارهم وجثوا على الركب وتناولوا الحصى ليحذفوه بها، وقد كانوا حصبوا الذى كان قبله فلما سكت أبهتهم وأحبوا أن يسمعوا كلامه، فكان أول ما تكلم به أن قال: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، والله إن كان أمركم ليهمنى قبل أن آتى إليكم، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بى ولقد سقط منى البارحة سوطى الذى أؤدبكم به فاتخذت هذا مكانه - وأشار إلى سيفه -، ثم قال: والله لآخذن صغيركم بكبيركم، وحركم بعبدكم، ثم لأرصعنكم رصع الحداد الحديدة، والخباز العجينة.
فلما سمعوا كلامه جعل الحصى يتساقط من أيديهم، وقيل إنه دخل الكوفة فى شهر رمضان ظهرا فأتى المسجد وصعد المنبر وهو معتجر بعمامة حمراء متلثم بطرفها، ثم قال: على بالناس ! فظنه الناس وأصحابه من الخوارج فهموا به حتى إذا اجتمع الناس قام وكشف عن وجهه اللثام وقال:
أنا ابن جَلا وطلاع الثنايا * متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال: أما والله إنى لأحمل الشيء بحمله، وأحذوه بنعله، وأحزمه بفتله، وإنى لأرى رؤوسا قد أينعت وآن اقتطافها، وإنى لأنظر إلى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى.
قد شمرت عن ساقها فشمري
ثم أنشد:
هذا أوان الشد فاشتدى زِيمْ * قد لفَّها الليل بسوَّاق حطمْ
لست براعى إبل ولا غنمْ * ولا بجزَّارٍ على ظهرٍ وضمْ
ثم قال:
قد لفَّها الليل بعصلبى * أروع خراج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابى *
ثم قال: إنى يا أهل العراق ما أُغمز بغماز، ولا يقعقع لى بالشنان، ولقد فررت عن ذُكاء وجربت من الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان نثر كنانته ثم عجم عيدانها عودا عودا فوجدنى أمرّها عودا وأصلبها مغمزا فوجهنى إليكم فأنتم طالما رتعتم فى أودية الفتن، وسلكتم سبيل الغي، واخترتم جدد الضلال، أما والله لألحونَّكم لحى العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إنى والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت، فإياى وهذه الجماعات وقيلا وقالا، والله لتستقيمن على سبيل الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا فى جسده.
ثم قال: من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب -يعنى الذين كانوا قد رجعوا عنه لما سمعوا بموت بشر ابن مروان كما تقدم -سفكت دمه وانتهبت ماله، ثم نزل فدخل منزله ولم يزد على ذلك، ويقال إنه لما صعد المنبر واجتمع الناس تحته أطال السكوت حتى أن محمد بن عمير أخذ كفا من حصى وأراد أن يحصبه بها، وقال: قبحه الله ما أعياه وأذمه !فلما نهض الحجاج وتكلم بما تكلم به جعل الحصى يتناثر من يده وهو لا يشعر به، لما يرى من فصاحته وبلاغته.
ويقال إنه قال فى خطبته هذه: شاهت الوجوه إن الله ضرب مثلا: { قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل:112] وأنتم أولئك فاستووا واستقيموا، فوالله لأذيقنكم الهوان حتى تذروا، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تنقادوا، وأقسم بالله لتقبلنّ على الإنصاف ولتدعن الأرجاف وكان وكان، وأخبرنى فلان عن فلان، وإيش الخبر وما الخبر، أو لأهبرنكم بالسيف هبرا يدع النساء أيامى والأولاد يتامى، حتى تمشوا السُّمَّهى وتقلعوا عن ها وها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة