على مدار 40 عاما، وربما أكثر من ذلك، خاض الكاتب والباحث محمد الشماع، رحلة داخل وخارج مستشفى المجاذيب، خلال اشتغاله على التوثيق والتنقيب وراء شخصيات وحالات ذكرها الطبيب محمد كامل الخولى، مدير مستشفى المجاذيب فى الفترة من 1916 وحتى 1953، فى مذكراته التى نشرها خلال فترة عمله فى المستشفى.
خلال هذه الرحلة، وجد محمد الشماع نفسه أمام حكايات درامية أغرب من الخيال، كان أغربها كانت حالة مدعى الألوهية، أو العقلاء والأذكياء، الذين لا يمكن أن نعدهم من بين العقلاء، أو المجانين، حالات غرائبية، أشبه بشخوص الروايات، لكنها كانت كفيلة لتدفعه للبحث عما أوصلهم إلى أبواب "السرايا الصفراء".
الكاتب محمد الشماع
مصر التى عرفت تشخيص وعلاج الأمراض النفسية والعقلية، فى الربع الأخير من القرن الـ19 عبر الأجانب الموجودين فى مصر، كانت سببا ودافعا كبيرا لـ"محمد الشماع" فى لأن يبحث فى تاريخ الطب النفسيى فى مصر.
الكاتب محمد الشماع
يقول محمد الشماع خلال حديثه مع "اليوم السابع" عن كتاب "السرايا الصفرا" الصادر عن دار المصرى للنشر، بالتزامن مع معرض القاهرة الدولى للكتاب 2022، فى دورته الـ53، هناك صورة ذهنية عن المريض النفسى لدى العامة، عرفناها من الأفلام العربية، وهى: "ساعة تروح وساعة تيجي"، وأغلبنا لا يعرف شيئا سوي ما شاهدناه فى الأفلام المصرية، وبالتالى فنحن لا نعرف شيئا عن تطور الطب النفسى فى مصر، والفرق بين النفسى والعقلي، ومن هنا كانت عملية البحث والتوثيق مهمة فى تعريف قارئ الكتاب بما يجهله.
تاريخ مستشفى الأمراض العقلية
بالإضافة إلى ذلك، يعرفنا محمد الشماع فى كتاب "السرايا الصفرا" على مستشفى الأمراض العقلية كيف تأسست، وأهم المستشفيات التى كانت تعالج المرضى، وأول مستشفى عربية فى التاريخ، والحوادث التاريخية المرتبطة بالطب النفسى، وكيف أن مرتكب الحادثة الجنائية لا بد وأن يعرض على الطبيب للكشف عليه نفسيا وعصبيا، وهل تقع عليه مسئولية أم لا.
محاولة اغتيال سعد زغلول
ومن بين الأحداث المهمة التى ذكرها "الشماع" حادثة محاولة اغتيال الزعيم سعد زغلول سنة 1924، والذى أقدم عليها مصرى كان يدرس الطب فى برلين، لكنه نجا بفعلته بعدما أثبت تقرير الطبيب النفسى أنه غير مسئول عن أفعاله، فمثل هذه الحكاية، لم يكتف الشماع بذكرها فقط، بل ذهب وراءها ليسرد حكاية الخلاف السياسي بين الوفدين والسعدين.
الزعيم سعد زغلول
وهنا يقول محمد الشماع: كل واقعة ذكرها الطبيب فى مذكراته، لم اكتف بسردها فقط، بل ذهبت إلى التاريخ من أجل توثيقها، وسرد كواليسها وتوابعها، من وقائع السجلات والصحف والكتب التاريخية التى تناولت هذه الوقائع.
كتاب السرايا الصفرا لـ محمد الشماع
ومن أغرب الحالات التى وجدها محمد الشماع، أحد العباقرة الذى كان يريد أن يؤرخ لفكرة المرض النفسى فى مصر، وكان يسألهم ويطلب منهم أن يساعدوا فى ذلك، لعمل كتاب عنهم، وكانوا بالفعل يمنحونه التفاصيل التى يسأل عنها.
إذاعى BBC فى مستشفى المجاذيب
وأيضا هناك أحمد كمال سرور، أول إذاعى يلتحق بـ بي بي سي العربية، كان أول من قال هنا لندن، فبعد عودته من الخارج زعم أن المخابرات البريطانية تلاحقه، فمكث فى مستشفى المجاذيب أربع سنوات حتى شفى، وخرج منها.
مدعى الألوهية فى مستشفى المجانين
وهناك أيضا، حالة القاتل، الذى ادعى أنه عفريت، وفى المستشفى أثبت التقرير أن لديه مشكلات نفسية، وفى يوم من الأيام زعم أنه ولى، يقول محمد الشماع: المشكلة ليست فى أن بعض المجانين صدقوه، لكن الكارثة أن بعض الأطباء صدقوه أيضا، فزاع صيته خارج أسوار السرايا الصفرا، حتى وصل الأمر أنه صار يتلقى زيارت من خارج المستشفى للتبارك به، ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل الأغرب أن المشرف الأجنبى وهو درجة أعلى من درجة طبيبنا صاحب المذكرات، أصدر لمدعى الألوهية تصريحا بالخروج من المستشفى.
مدعى الألوهية فى مستشفى المجانين
بعد هذه الرحلة الطويلة التى غاص فيها محمد الشماع داخل عالم الطب النفسى، فى المكتبة المصرية، وجد أن الشق الأكاديمي الذى كتبه الأطباء النفسيين الكبار، أمثال الدكتور أحمد عكاشة، والدكتور الرخاوى، كتب مهمة جدا، لكنها فى المقابل كتب موجهة للمتخصيين، أما الكتب المعنية والموجهة إلى القارئ العادى، فلا يوجد سوى كتب الاكتئاب والخروج من الاكتئاب، فتقريبا الثقافة النفسية معدومة وتكاد لا توجد فى المكتبة المصرية، وهو أمر بحاجة إلى اهتمام كبير لإثراء الثقافة النفسية فى المكتبة المصرية.
محمد الشماع
محمد الشماع، صحفى وباحث من مواليد أكتوبر 1979، صدر له كتب "أيام الحرية" و"الشعب بيدى رأيه فى كل ما حدث"، و"حكايات من دفتر صلاح عيسى"، ويعمل فى مؤسسة "أخبار اليوم" ويكتب فى عدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية، وصانع أفلام وثائقية، وله تجربة فى كتابة السيناريو فى فيلم "هبوط حاد فى الدورة الدموية"، الذى إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس الثقافية.