- رضا فهمى يقود المجموعات الجديدة ويهدد بموجة عنف واسعة من خلال «جمعية ميدان» وتدريب العناصر سياسيا وعسكريا فى عدة دول
مؤتمر عقدته عناصر «المكتب العام» المنبثق عن اللجان النوعية ومجموعات محمد كمال، جرت وقائعه خلال يناير الماضى للإعلان عن تيار جديد، أو بالأحرى إعادة إطلاق لتيارهم الذى خفت بريقه بعد سنوات من استهلاك العنف وصدوع عميقة أحدثتها الضربات الأمنية المركزة، لم يكن المؤتمر تمهيدًا لتحرّك مُرتقب فقط؛ لكنه كان تأكيدا لروابط قديمة طالما أنكرتها الجماعة، وإعلانا بأثر رجعى عن مُجرمين آخرين رفعوا راية العنف إلى جوار محمد كمال.
1
سبق المؤتمر الذى حضره عديد من عناصر حركة حسم الإرهابية بعدّة شهور، إطلاق جمعية إخوانية جديدة تحت اسم «ميدان»، يتزعمها القيادى الإخوانى رضا فهمى، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومى فى مجلس الشورى إبان حكم الجماعة. هدف الجمعية لملمة شتات التنظيم وإعادة توظيف شبابه بعدما تحلّلت هياكل اللجان النوعية، وبالفعل حصل عشرات من العناصر على تدريبات سياسية وعسكرية فى إحدى الدول الإقليمية. تلك التفاصيل وغيرها أُعلنت صراحة وضمنيا خلال مؤتمر يناير الماضى الذى حمل عنوان «شباب التغيير.. عقد من النضال وخطوة للمستقبل»، كانت المفارقة أن الجماعة التى طالما نفت صلتها بحركة حسم وغيرها من مجموعات العنف الإخوانية، عادت لاحتضان إرهابييها الصغار مجددا.
فى لقاء تليفزيونى سابق مع عضو التنظيم أحمد سمير، بدا رضا فهمى وهو يمتدح ما أسماه «نضج حركة حسم» كأنه يُحلل الصورة من الخارج دون رباط يجمعه بالحركة، لكنه الآن بات يحتل مقعد محمد كمال علنًا، كان الدليل فى «ميدان»، ثم فى مؤتمر يناير المشار إليه، وأخيرًا مؤتمر إطلاق ما قيل إنها «وثيقة سياسية» صادرة عن تيار التغيير، وهى مُجرّد صياغة جديدة للجان محمد كمال النوعية. قبل شهور هدّد فهمى بـ«إعادة الحراك المسلّح والثورى» على حد تعبيره، حسبما نقلت «سكاى نيوز» فى تقرير لها، وكان التهديد على مسمع الحضور: محمد منتصر، وعمرو دراج، وحمزة زوبع، وجمال عبدالستار. التئام التحالف الجديد على تلك الصورة لا يُشير إلى انحراف أو مُغايرة فى تفكير الجماعة، بقدر ما يحمل دلالات تتصل بحجم الأزمة والشقاق، وتبحث عن ثغرة ينفذ منها التنظيم متجاوزًا نهاية بات يخشاها قادته وقواعده بالدرجة نفسها!
محمود-حسين
تيار كمال.. سواد «البنا» بالألوان
طيف واسع من عناصر الإخوان تجمّعوا مساء السبت 15 أكتوبر، ظاهر الأمر إطلاق رؤية جديدة يُفترض أنها صادرة عمّن يُعرّفون أنفسهم بـ«تيار التغيير»، لكن وراء تلك الصورة بدا أن هناك تحالفا أوسع فى أروقة التنظيم، لا يرتكز على رؤية أيديولوجية أو مُدوّنة فكرية مُغايرة فعلا، وإنما يستعير خطابًا يحاول الإيحاء بقدر من الاختلاف مع ما استهلكته الجماعة وأجنحتها طوال السنوات الأخيرة، ويتورّط - ربما من دون قصدٍ - فى إعادة تدوير الأُسس النظرية والحركية التى قامت عليها التجربة الفاشلة نفسها، كان الشباب قبل سنوات ورقة الإخوان المشتعلة التى ألقوها فى وجه الدولة، والآن يبدو أنهم يُحاولون توظيف رمادها فى تغيير معالم التنظيم!
السيد-قطب
جاءت الورقة التى أسموها «الوثيقة الأولى - الإصدار السياسى» فى 34 صفحة من القطع الصغير، استهلكت فى الجزء الأكبر منها خطابا إنشائيا عن تاريخ التنظيم وتأسيسه الفكرى وثوابته القيمية والحركية؛ لكن أخطر ما طرحته إجمالا تلك المحاولة لصبغ وجه الجماعة بصيغة مُحدّثة من نهج حسن البنا وسيد قطب، كما لو كان الأمر صورة جديدة مُلوّنة للواقع الأسود القديم، كان الأمر فيما سلف صراعا بين أجنحة، لكن يبدو الآن أننا صرنا إزاء ثلاث جماعات لكل منها جسد ورأس وانحياز: جبهة محمود حسين تسعى للإبقاء على التنظيم بحالته القديمة، وجبهة إبراهيم منير فى لندن وتحاول فصل الداخل عن الخارج وإبقاء الأيديولوجيا ولو ضحّت بالبناء والأفراد، وأخيرا جبهة محمد كمال، أو تيار التغيير «الكماليون» وهدفهم إعادة تأسيس الجماعة على صورة مُفارقة للسابق كُليًّا.
الإخوان الجُدد يعتبرون أنفسهم جيلاً ثالثًا من التنظيم، بعد الوجهين الدعوى الحركى للبنا والسياسى العابر للحدود مع التلمسانى، لكنهم يخلطون التجارب كلها معًا، سعيًا إلى إنتاج جماعة دعوية سياسية حركية تمتلك أسباب العنف وتتصل بأطرافها وداعميها فى الخارج بجذور وثيقة.
عمر-التلمسانى0
استبق إبراهيم منير وثيقة «الكماليين» بورقة أطلقها أواخر سبتمبر الماضى تحت اسم الوثيقة السياسية أو «أولويات الإخوان السياسية»، استهلكت الورقة خطابًا عاطفيا عن تاريخية الجماعة ودوريها الدعوى والسياسى، ولم تقدّم خطابا عنيفًا بشكل ظاهر، لكنها لم تعترف بجرائم التنظيم أو تُبدِ نيّتها للتوبة عنها وقبول الحساب عليها، تضمنت وثيقة «منير» مفارقة تبدو مضحكة، بالإشارة إلى خروج الجماعة من سباق الصراع على السلطة، وكأنها كانت طرفا فى المجال السياسى المصرى أصلا، أو أنها قادرة على العودة إليه! كان واضحًا أن الطرح مُجرد مناورة هروب إلى الأمام من صراع داخلى مُحتدم، وخطاب استهلاكى ربما يستهدف غسل السُمعة وتقديم جناحه للرعاة والممولين بوجه ينسجم مع التغيرات الإقليمية ونوافذ التقارب شبه المفتوحة، لكن الاحتمال الأهم أنه ربما كان مُحاولة لسحب البساط من تحت أقدام رضا فهمى ومجموعته من «الكماليين» وورثة اللجان النوعية وخطاب العنف، مع علمه بما كانوا يُعدّون له من صيغة تنظيرية جديدة لاختطاف ما تبقى من الجماعة، والعمل على تمثيلها أمام الرعاة والحلفاء والقواعد الحانقة بفعل فساد القيادات وسوء إدارتهم! المهم أن مساحة التمايز بين الصورتين لا تبدو كبيرة، الخطابان يستعيران مُدوّنة التنظيم البالية، ويُحاولان تقديمها كما لو كانت جديدة، الطرفان ما زالا أسيرين لذهنية البنا وقطب، وحركية التلمسانى وعاكف، وكل ما فى الأمر أنهما يُحاولان تلوين الصورة السوداء، أو تغيير شكل البرواز!
رضا-فهمى
حرب التيارات.. حرب المصالح
كان محمد كمال تعبيرًا حقيقيا عن الإخوان: الثنائية المتضادة وغير المنطقية للجماعة الدعوية التى تحب الإرهاب وتمارسه. ترقّى الرجل الوافد من صعيد مصر تنظيميا حتى وصل لعضوية مكتب الإرشاد، وبينما يُفترض فى المكتب أن يُمثّل الجماعة سياسيا ويُقدّمها بوجه مُسالم، دشّن «كمال» قطاع اللجان النوعية، ومنه تأسست حركات عنف مثل «حسم» و«لواء الثورة» و«العقاب الثورى» وغيرها. قُتل قائد الجناح العنيف فى مواجهة مع قوات الأمن خلال أكتوبر 2016، وبعدها بشهرين فقط تمرّد أبناؤه على الجماعة بهياكلها القائمة فأسّسوا ما أسموه «المكتب العام»، من تلك الخطوة جاء تيار التغيير ووثيقته الأخيرة، لكن المفارقة أن الجناح التنظيمى الذى كانت نواة انطلاقته فى مصر، وكان رافضًا لسيطرة إخوان الخارج على هياكل الجماعة أو إدارة شؤونها بمعزل عن رؤية كتلتها الأكبر، اختاروا أن يُطلقوا وثيقتهم الجديدة وعنوان مرحلة عملهم المقبلة من الخارج أيضًا. سقوط قوى لما كان يبدو أنه انحياز فكرى لدى الجيل الجديد، هكذا لا يبدو أن هناك فارقًا يُميّزهم عن جبهتى محمود حسين وإبراهيم منير، اللهم إلا الجهة التى يعمل كلٌّ منهم لحسابها، أو السعر المدفوع لقاء جهودهم!
دأبت الجماعة على انتهاج لعبة توزيع الأدوار بين أجنحتها.. قديما كان عبدالرحمن السندى يقتل وحسن البنا يتبرأ من الجرائم، التلمسانى يتحالف مع نظام الحكم وقواعد الجماعة تعمل ضده، حزب الحرية والعدالة يعقد توافقات انتخابية مع القوى السياسية ومكتب الإرشاد ينتهكها، محمد مرسى يطمئن حلفاءه فى «مؤتمر فيرمونت» والجماعة تقرر خطا مغايرا من وراء ظهورهم وتتفق مع شركائها من الجماعات المتطرفة، وحتى محمد كمال نفسه أسَّس للإرهاب بعد 30 يونيو ومارسه بينما كان قادة التنظيم ينفون صلتهم به، هل يمكن أن يكون صراع التيارات الحالى لعبة تقسيم أدوار؟ لا شىء يقطع بالعكس، حتى لو بدا أن كل فريق منهم يعمل لصالحه ويحاول مُراكمة المكاسب والامتيازات، ليس شرطًا أن يكون توزيع الأدوار باتفاق، إذ من طول ما انتهجته الجماعة بات مُستقرًّا فى لا وعى أفرادها، وما دام هناك من يلعب دور «الحمامة» فيُمكن أن أكون صقرًا وأكسب محبة المُغرمين بالافتراس والدم، والعكس. هكذا يرى محمود حسين أن الحفاظ على الجماعة بصورتها القائمة مهمة قادرة على إقناع الحرس القديم وأجيال الوسط، ويرى إبراهيم منير أن فك الارتباط القُطرى والإقلاع مؤقتا عن السياسة يُمكن أن يُوحّد أطراف الجماعة التى كانت مُختلفة على قيادة مصر للتنظيم أو يوافق قبولا من الرعاة والممولين، ويرى أبناء محمد كمال أن الإفصاح عن وجه الجماعة العنيف قد يُكسبهم أرضًا لدى أجيال الشباب والناقمين على صقور الجماعة وبقايا جيل عُمر التلمسانى. وثيقة إبراهيم منير دفع فى هذا الاتجاه، ومواقف محمود حسين ومجموعته مُزايدة بالتنظيم على الأعضاء، ووثيقة «تيار التغيير» الأخيرة محاولة لاكتساب أرضٍ تآكلت تحت أقدامهم، وحصيلة الثلاثة توزيع جديد للأدوار، حتى لو كان من دون اتفاق مسبق!
وثيقة الكماليين.. شرخ جديد فى الجدار
بعيدًا من حسابات الأجنحة تبدو «وثيقة الكماليين» الجديدة شرخًا فى جدار مائل ومُتهدّم، لا سيما أنها تقدّم أصحابها باعتبارهم الممثلين الوحيدين للتنظيم، ما ينزع الشرعية الداخلية عن بقية الأجنحة، التى لا تعترف بدورها بالتيار الجديد. أهم ما تُشير إليه الوثيقة هو استفحال الانقسام والانشاقات فى أروقة الجماعة، وتصادم الرؤى حتى بين من يعملون لصالح نفس الجهة أو يقيمون لديها ويتربّحون منها. وتعترف الورقة بهذا الانقسام من زاوية أنها تقدّم محاولة للالتفاف على صدوع القيادة وانفصالها عن القواعد، سعيًا إلى لملمة ما تبقى من جيوب الجماعة وشبابها الذين كفروا بالتنظيم وقادته، لكن أخطر ما فيها أنها تحاول اختراق المجال السياسى العام، عبر تقديم وجه مراوغ للجماعة يرفع شعار التوافق والائتلاف مع بقية التيارات، من دون تبرير مُقنع لما سبق من تسلّط وغطرسة وتلاعب بكل القوى السياسية.
لا تنطلق الوثيقة من إقرار بجرائم التنظيم، ما يُعنى إقرارها لما سبق من ممارسات، وبالنظر إلى تجديد استهلاكها لخطابات «الثورية والعمل ضد الدولة» تبدو الورقة بيان عنف وإطلاقا جديدا لأنشطة اللجان النوعية بفكر محمد كمال وفلسفته. المعنى الكامن وراء ما يطرحه «الكماليون» أن ظهر التنظيم بات ملتصقا بالحائط، ولا مخرج من الأزمة وفق «فقه المحنة» إلا بمناورة الخطابات السياسية لمجموعة منير، والمُحددات التنظيمية التى يستعصم بها محمود حسين، واستعادة ميراث «حسم» بالآلية الحركية نفسها، وعلى ذات الأرضية الفكرية التى طالما انتهجتها الجماعة منذ مرحلة «البنا/ السندى» إلى الآن.
لا يخلو الأمر من توظيف عقائدى لخطاب العنف. تدّعى الورقة أنها تنطلق من دفاعها عن «الهوية الإسلامية» فى اجترار للعبة التجارة بالشعارات العاطفية التى كانت تلقى هوى لدى القواعد. تعتمد المجموعة تلك الفكرة مدخلا لاجتذاب شراذم التنظيم، وخداع العوام، واختصام الدولة على أرضية دينية، وهو استغلال للإسلام/ العقيدة كمدخل حركى لتمرير أجندة فوق وطنية، لا تنسجم مع الممارسات العملية للتنظيم باستحلاله الدماء أو ترويع الآمنين واستهداف الوطن والعمل لصالح أجهزة استخباراتية يقع فى دائرة الخيانة المباشرة. يُضاف إلى ذلك محاولة التجارة بالبُعد العربى ضمن مكونات الهوية والأمن القومى لمصر، فى قفز واضح على عمل التنظيم ضد المصالح العربية وتهديده لأمن المنطقة، فى مصر سابقا، أو فى تونس وليبيا واليمن وسوريا والسودان وبعض دول الخليج قديما وحتى الآن.
تستعير الوثيقة تعريف حسن البنا لجماعة الإخوان بوصفها «هيئة إسلامية تؤمن بشمولية الفكرة الإسلامية وتحقيق مقاصد الشريعة فى الأمور الخاصة والعامة» ما يُشير إلى استنساخ مرتكزات التنظيم فكريا وحركيا، لا مجرّد التعريف، وأن أية خطابات مُعلنة الآن ليست إلا محاولة للمناورة واختراق جبهة الممانعة والرفض الشعبيين للجماعة؛ من أجل العودة للعب دور على الساحة السياسية، أما التضارب فى طرح مسألة العلاقة بالعمل السياسى وادعاء أن الجماعة لن تكون منافسا لمكونات المجتمع، مع تأكيد أنها ستلعب دورا سياسيا، فيُعيد التذكير بمواقفها بعد 2011 وادّعائها الفصل بين التنظيم وذراعه السياسية «الحرية والعدالة»، وهو ما لم يكن إلا شعارات، ليظل المرشد رأسا لمكونات الجماعة التنظيمية والحزبية، ويتكرر الأمر الآن من خلال المكتب العام «الكماليون» وهم ينطلقون من اعتلائهم هيكل التنظيم حاليا، بينما يدعون إلى سياسية، ما يعنى أنهم يجلسون على قمة العمل الحركى تنظيميا وسياسيا، كما كان محمد بديع وكل أسلافه من المرشدين سابقا.
تدعى الوثيقة أن الجماعة تدعو للتحرر، ما يتنافى مع عملها التخريبى من منصات إقليمية ودولية مناوئة لمصر والمنطقة العربية، فضلا عن ممارسات سابقة حاولت استعباد الشعب والدولة، ولم يعتذر عنها التنظيم قديما ولا «الكماليون» الآن، إضافة إلى أدوار شبيهة لأجنحتهم الإقليمية بالعمل من خلال أجندات موجهة من دول وجهات ذات أطماع سياسية أو اقتصادية أو استعمارية فى المنطقة، كما تحاول الوثيقة تمرير أجندة الجماعة باستعارة خطاب المقاصد الشرعية، ما يستدعى السؤال عن التزامهم بتحقيق تلك المقاصد، وهو ما لم تفعله الجماعة سابقا أو الآن، إذ مارست الإرهاب واستحلّت الدماء وهدّدت الاقتصاد وكانت فاعلا أصيلا للمفاسد بدلا من درئها.. هكذا يبدو الأمر مجرد توظيف سياسى لحزمة خطابات دينية، وليس طرحا موضوعيا يرتكز إلى رؤية مُغايرة لتاريخ التنظيم وواقعه المتورط فى العنف والدم.
فتنة القيادة.. وجوه أخرى لنفس العنف
لا تُبشّر الوثيقة بأننا إزاء تصوّر جديد يختلف عمّا أدمنته الجماعة، الأمر أقرب إلى فتنة تتصل بالصراع على القيادة، وتديرها وجوه متمايزة، لكنها من الحظيرة نفسها، كلها تعبر عن عقيدة العنف. يطرح المكتب العام نفسه باعتباره القيادة الشرعية للإخوان، بينما يظل الأمر محل تنازع، وتتوزع ولاءات كل جبهة حسب نقطة التمركز وخطوط التمويل وأجندة المصالح والعمل، ما يضع «وثيقة الكماليين» فى مقابلة أجندات فكرية وحركية لأطراف تنظيمية أخرى، ويسبغ الأمر بألوان الصراع، أو شبهات توزيع الأدوار وفق اللعبة الإخوانية المعتادة لاختراق المجال العام والبيئة السياسية.
تقول الوثيقة، إن المكتب العام ومؤسساته «تنتهج النهج الأصيل لجماعة الإخوان والمسار الفكرى الذى أسسه حسن البنا»، وهو اعتراف مباشر بأن كل ما قيل فى المقدمة وتفاصيلها مناورة ولعبة خداع، وأنه لا انحراف فى فكر الجماعة وأجندتها وخططها التنظيمية والعملية. الأمر مجرد عملية تجميل أو محاولة إطلاق جديدة للتنظيم بمرتكزاته نفسها، لا على أرضية تغير حقيقى فى الرؤى واعتراف بالجرائم ورغبة فى التوبة عنها، ولكن على أرضية المخادعة ومحاولة تضليل الحلفاء والخصوم. كما أن الإشارة إلى أفكار البنا وموقفه من فصل الدين عن الحكم، تستدعى نظرة رصد وتحليل عميقة لخروج «البنا» نفسه على فكرة السلطة الشرعية والالتزام الوطنى، إلى صيغة أممية تستند إلى شعار «الأستاذية»، ولا تتورع عن الوصول لأهدافها بكل الصور المنحرفة أخلاقيا وقانونيا. تستند الورقة إلى رسالة البنا فى المؤتمر السادس «القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام» وهى محاولة مُتكررة من «الكماليين» لصبغ العقيدة برؤية سياسية وتنظيمية ضيقة، واختطاف الدين لصالح فصيل بعينه، كما أنها إشارة إلى انتهاج الجماعة مسارا عنيفا يستند إلى امتلاك قوة خاصة خارج نطاق القوة الشرعية للدولة وأجهزتها، وقد حدث ذلك من قبل عبر النظام الخاص وعنف ما بعد الثورة والدعوة لتكوين «ميليشيات» بديلة عن الجيش وتسليح رابعة، ويُبشر بتجدد محاولات هيمنة التنظيم على المجال العام بالقوة، أو الاصطدام بالدولة، أو السعى لتسييد وجهة نظرها بالعنف والغطرسة.
حسن-البنا
تحتفى الوثيقة بجملة البنا «قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدى الذين لا يدينون بأحكام الإسلام»، وهو طرح تكفيرى مباشر يعيد تقديم الجماعة الإرهابية باعتبارها فصيلا إصلاحيا، ثم يجعل طلب الحكم واجبا دينيا، ويُكفر الدولة ومؤسساتها والمجتمع الرافض لهذا الطرح. ومن هذا التزييف العقائدى إلى تزوير التاريخ بإعادة الحديث عن انخراط الإخوان فى السياسة وترشح البنا باعتباره عملا دعويا، وادّعاء خسارته بتزوير الانتخابات، وهو ما يتصادم مع حقائق التاريخ من انعدام شعبية البنا وتكرار فشل الجماعة سياسيا، ثم تحالفاتهم مع القصر واتصالهم بالإنجليز وحصولهم على تمويل من شركة «قناة السويس» الفرنسية وقتها، وما يتصل بهذا من فساد إدارى ومالى وفضائح أخلاقية، كما فى واقعة عبدالحكيم عابدين «صهر البنا». وتدعى الوثيقة تنكيل نظام عبد الناصر بالجماعة، وهو ما يتنافى مع حقائق التاريخ من انقلابهم على الثورة، ومحاولة اغتيال عبدالناصر نفسه، وقضية تنظيم 1964 بمحاولة تفجير القناطر الخيرية، وأثر ذلك على التنظيم نفسه بانشقاق كثيرين من عناصره، ومنهم الشيخ الباقورى وزير الأوقاف الأسبق.
تتناول الوثيقة تحالفات الإخوان السياسية بدءا بالوفد فى انتخابات 1984 حتى التحالف الديمقراطى بعد ثورة يناير، وكلها تكلّلت بتلاعب وخيانات مباشرة من الجماعة لحلفائها، فاخترقت حزب العمل وشوّهت بنيته، وانحرفت بصحيفة «آفاق عربية» المستأجرة من حزب الأحرار، وخانت الناصريين فى تحالف 2011، وصولا إلى التلاعب بالجميع فى «مؤتمر فيرمونت»، ما تزال الجماعة الإرهابية أسيرة «وهم الشرعية» بحديثها عن أنها مغادرة السلطة بانقلاب، ويبدو أنهم عاجزون أو غير راغبين فى استيعاب الظرف التاريخى، وأن 30 يونيو كانت ثورة شعبية والنظام القائم يستند إلى مشروعية الشارع والصندوق، وهو أمر فضلا عمّا فيه من إنكار وتغييب، يجسّد استماتة قوية فى الهروب من الاعتراف بجرائم الجماعة وما تسببت فيه من أزمات وطنية، وما مارسته من عنف وإرهاب، والأخطر أن يؤكد عدم احترامها للإرادة الشعبية التى خلقت السياق الراهن، ما يعنى أنها لا تقبل رأى الشعب إلا لو كان داعما لمصالحها، أما ما دون ذلك فإنها على استعداد لتكفير الجميع ومحاربتهم.
الاخوان-يحملون-الاسلحة-بمصطفى-محمود-تصوير-عصام-الشامى-14-8-2013-(19)
يؤسس أبناء محمد كمال وورثة «إرهاب حسم» وثيقتهم الجديدة على ما أسموه «غرس ثقافة الاستبدال» بدلا من «ثقافة الإصلاح»، وهو ما يتصادم مع ادعاء الوثيقة فى التمهيد أنها محاولة لخلق مقاربة سياسية واجتماعية تعيد تشكيل السياق العام وتتكامل معه من أجل المصلحة الوطنية، كما يصطدم بادّعاء الإخوان الدائم بأنها جماعة إصلاحية، ويُبشر بمواصلة انتهاج العنف.. هذا التضارب يُشير إلى غياب الرؤية، أو إلى الانتحال والتضليل، أو إلى استفحال الانشقاقات الداخلية إلى حدّ الخلاف على كل شىء، وليس الهيكل والقيادة وآلية العمل فقط، كما تدّعى الوثيقة أن رؤيتها تقوم على «استعادة الإرادة الشعبية» وهى مراوغة مختلة تتجاهل أن تلك الإرادة أطاحت التنظيم من السلطة قبل 9 سنوات وما تزال حائط صد ضد قبول عودته للمجال الوطنى العام، وبتناقض فج مع هذا الاختلال تشير إلى أن رؤيتها تستند لضرورة «امتلاك القوة» وهو نفس النزوع الحركى المعتاد من الجماعة باتجاه انتهاج العنف بغرض فرض وجهة نظرها، أو تطويع المجال العام بتشتيت قدرات الدولة وإرهاب الحلفاء والخصوم.. تلك النقطة بمثابة اعتراف بانشغال الجماعة واشتغالها بفكرة العنف، وأنها لم تتخل عنها كما تدّعى، وإنما تناور بغرض إحداث اختراقات للوعى الجمعى ومحاولة تفكيك الرأى العام المعادى للتنظيم وجبهة الرفض الصلبة ضد استعادة حضوره فى المشهد.
مراوغة الجماعة تمتد إلى خلط الأوراق واللعب بالمصطلحات، بالحديث عن «معتقلين سياسيين تعرضوا لمحاكمات سياسية» بحسب تعبير الوثيقة، وهو تناقض واضح ويبدو مقصودا، إذ تتأسس فكرة الاعتقال على تقييد الحرية خارج نطاق القانون، بينما الخضوع لمحاكمة قضائية يعنى استنفاد المسار القانونى استنادا إلى وقائع وقضايا جرى تحقيقها من جهات الأمن والادعاء وصولا إلى منصة القضاء، تلك الصيغة تبدو محاولة للتنصل من الجرائم والسعى إلى غسل الأيدى وتبييض وجه التنظيم. وفى إطار حملة التسويق نفسها تنتحل الوثيقة عدة قضايا إقليمية مدخلا لصبغ الجماعة بصبغة وطنية وقومية، مثل الأقصى والقضية الفلسطينية وأوضاع مسلمى العالم وغير ذلك، وهو استمرار لمسلسل تمرير الأهداف السياسية عبر عناوين عقائدية أو أخلاقية براقة، بينما لا ينسجم ذلك مع فلسفة استحلال الدم ومعاداة الوطن الأم.
محمد-كمال
خلاصة الوثيقة بكل ما تعبر عنه من صدوع وتشققات فى جسد التنظيم، أن الجماعة استنفدت كل سُبل العمل والبقاء، ولم يُعد بإمكانها إلا تكرار حلقات سابقة من ماضيها البعيد والقريب. محاولة إبراهيم منير تشبه استكانة التلمسانى، ورؤية محمود حسين لا تختلف عن مسلك البنا بعد أزمة اغتيال النقراشى، وتحرك أبناء محمد كمال «الكماليون» أو تيار التغيير الآن يشبه أداء السندى قبل 7 عقود، أو سيد قطب وعاكف وزينب الغزالى فى الستينيات، أو محمد كمال نفسه بعد 2013. باتت الجماعة مستهلكة ولا تملك أيا من أسباب الحياة، وليس فى مقدورها إلا المناورة والخداع، وإعادة التهديد بالعنف والدم!
ابراهيم-منير
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة