حالة من الزخم، تحظى به قمة المناخ، المنعقدة حاليا في شرم الشيخ، في ظل نجاح كبير، للدولة المصرية، سواء على المستوى التنظيمي، أو اللوجيستي، بالإضافة إلى الاستعدادات الكبيرة لاستضافة هذا الحدث الاستثنائي، ناهيك عن توقيت انعقادها، والذى تزامن مع العديد من المستجدات الدولية والإقليمية، التي دفعت قادة العالم نحو تقديم رؤى أعمق وأكثر شمولا، ربما تتجاوز المسألة المناخية، والتي تمثل، في جوهرها تهديدا صريحا لـ"الكوكب" بأسره، إلى العديد من القضايا الأخرى، في ظل حالة من الارتباط الشديد فيما بينهم، وهو ما يبدو، على سبيل المثال في تأثيرات الظاهرة المناخية، على قطاعي الغذاء والطاقة، والتي تفاقمت بطبيعة الحال، مع اندلاع الأزمة الأوكرانية، في ظل اعتماد قطاع كبير من دول العالم، على الواردات القادمة من البلدين، في هذين القطاعين.
ولعل حالة الارتباط بين الأزمات القائمة، جعل الحديث عن علاج قضية المناخ مرتبطا إلى حد كبير بالعديد من القضايا الأخرى، منها ما هو سياسي، على غرار الأوضاع في أوكرانيا، واقتصادي، فيما يتعلق بالعملية التنموية في مختلف دول العالم، ومجتمعي، في ظل حاجة الشعوب إلى سبل العيش الكريم، بالإضافة إلى ما يمكننا تسميته بـ"الكوني"، يقوم على حماية "الكوكب" من المخاطر المحدقة به وهي الأمور التي لا يمكن تحقيقها سوى بالوصول إلى "حزمة" من الحلول العادلة، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في زيادة حالة الزخم في قمة المناخ في شرم الشيخ، خاصة مع تزايد الأزمات وتواترها والحاجة الملحة إلى استراتيجية ممتدة، يمكنها التعامل مع الأزمات طويلة المدى، والتي تحمل تداعيات تتجاوز الزمن والجغرافيا.
وبالتالي، أصبحت قمة شرم الشيخ، تتجاوز كونها متعلقة بقضية المناخ، إلى العديد من القضايا الأخرى، والتي ترتبط بحياة الشعوب، بالإضافة إلى علاقتها الوثيقة، في جزء كبير منها، بالعديد من الأزمات الأخرى، والتي تمثل تهديدا صريحا، لكافة مناحي الحياة، لتصبح الآمال معلقة بشرم الشيخ، ليس فقط من قبل المهتمين بالمناخ، وإنما من قبل قطاع أوسع نطاقا من البشر، حول العالم، باتوا يشعرون بالمعاناة، في ظل الأزمات المتلاحقة.
نداء الرئيس
تلك الحالة التي حظت بها قمة شرم الشيخ، في ظل "التداخل" بين الأزمات، ربما تترجم بوضوح أهمية النداء الذى أطلقه الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال فاعلياتها، لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يعكس ضرورة التعامل مع الأزمات المتواترة، عبر حزمة من السياسات المتزامنة، في إطار استراتيجي "جامع"، بحيث لا يقتصر التركيز على أزمة بعينها، في ظل حالة "اللامحدودية"، سواء الجغرافية أو الزمنية، التي تتسم بها الأوضاع الراهنة، مما وضع كافة دول العالم في مأزق حقيقي، مازالت المنظومة الدولية عاجزة عن التعامل معه، بسبب غياب الآليات والأدوات التي من شأنها التعامل مع مثل هذه النوعية من الأزمات، وهو ما بدا على سبيل المثال خلال الوباء، والذى أصاب دولا كبيرة بالشلل.
النهج "الجامع" الذي تتبناه الدولة المصرية لم يقتصر على مناقشة كافة الأزمات العالمية، في إطار القضية المناخية، وإنما امتد إلى ضرورة "تعميم" النهج التنموي، ليشمل كافة الدول، بعيدا عن سياسات "الإفقار"، التي هيمنت على العالم، خلال السنوات الأخيرة، بحيث تصبح عملية التنمية، غير قاصرة على حدود دولة معينة وإنما ممتدة لجيرانها، في إطار تكاملي، باعتباره السبيل الأنجع، لمحاربة خطر الفوضى، والذى صار شبحا يطارد كافة دول العالم، باختلاف تصنيفاتها وإمكاناتها، وهو ما يبدو في الاحتجاجات المتواترة في كل المناطق، بلا استثناء، بينما يحمل في طياته طبيعة فيروسية ممتدة، وهو ما تجلى بوضوح في منطقة الشرق الأوسط إبان حقبة "الربيع العربي"، والتي مازالت تعاني بعض الدول من تداعياتها حتى الآن.
الرؤية المصرية، في إدارة القمة الاستثنائية، تبدو مستلهمة من السياسات التي تبنتها للتعامل مع أزماتها في الداخل خلال السنوات الماضية، في أعقاب سنوات الفوضى، في إطار يبدو منسجما، حيث اعتمدت نهجا شاملا، يعتمد إقامة المشروعات العملاقة، والتي امتدت إلى كافة المحافظات، بعيدا عن سياسات التهميش، وذلك لانتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية بعد سنوات من التوقف، جنبا إلى جنب مع إشراك كافة الفئات، التي عانت تهميشا بالغا لعقود طويلة من الزمن، وعلى رأسها الشباب والمرأة وصولا إلى ذوى الهمم، تزامنا مع العمل على تحقيق الأمن والاستقرار، في إطار الحرب على الارهاب، بأبعادها الأمنية والتوعوية، وهي السياسات التي حققت نجاحا كبيرا، ربما تجلى في قدرتها على الصمود أمام الأزمات المستحدثة، على غرار تفشي وباء كورونا، والتي استطاعت خلالها الدولة من تحقيق أرقام إيجابية في التنمية الاقتصادية، في الوقت الذى عجزت فيه أعتى الاقتصادات عن مواجهته.
دبلوماسية المنتجعات
وبالإضافة إلى "الجمعية" التي تتسم بها قمة المناخ، يبدو انعقادها في مدينة شرم الشيخ أحد أهم العلامات الاستثنائية، التي تتسم بها، في ظل اعتمادها العديد من المشروعات الذكية الصديقة للبيئة، والتي حولتها إلى نموذج يحتذى به، فيما يتعلق بالمنتجعات حول العالم، لتحقق استضافتها للقمة، أبعادا إضافية للزخم الذى تحظى به، وأهمها تقديم عرض عملي للوفود المشاركة، يمكن تعميمه، خاصة في الدول النامية، في إطار الإجراءات اللازمة لمكافحة ظاهرة التغيرات المناخية.
ويعد انعقاد القمة في شرم الشيخ، بمثابة ترسيخ لـ"دبلوماسية المنتجعات"، والتي تمثل امتدادا للنهج الذى تتبناه القوى الكبرى حول العالم، على غرار "كامب ديفيد"، والتي تعد، في أغلب الأوقات، خيار الولايات المتحدة المفضل، لعقد المفاوضات الماراثونية الصعبة، وكذلك منتجع سوتشي، في روسيا، والذى بات معتمدا لعقد المؤتمرات والقمم الهامة التي تقودها موسكو، لتصبح المدينة المصرية بمثابة "عاصمة المناخ" في محيطها الجغرافي، على غرار العاصمة الفرنسية التي ارتبط اسمها لسنوات بالقضية المناخية، على خلفية توقيع اتفاقية باريس في 2015، وهو الاتفاق الأبرز حول هذه القضية منذ بزوغ نجمها، حتى أنه صار جزء لا يتجزأ من نفوذ فرنسا على المستوى الدولي، وهو ما يفسر الغضب الشديد من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون في أعقاب الانسحاب الأمريكي من الاتفاقية، في 2019، في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى الحد الذى دفعه إلى الحديث حينها عن "الموت الإكلينيكي" للناتو، والذى يعد أحد أهم علامات القيادة الأمريكية للمعسكر الغربي، وذلك قبل عودة واشنطن للاتفاق مرة أخرى مع صعود جو بايدن إلى عرش البيت الأبيض.
وبين باريس وشرم الشيخ، ربما نجد العديد من التشابهات، ربما أبرزها الدور القيادي لمصر وفرنسا في مناطقهما الجغرافية، بالإضافة إلى كونهما مدن صديقة للبيئة، مما يعزز ما يمكننا تسميته بـ"دبلوماسية الأقاليم المناخية" والتي تعتمد سياسة التحرك إقليميا لاحتواء الخطر الداهم، الذي يواجه البشرية، جراء تفاقم ظاهرة "التغير المناخي"، هو ما يعني أن شرم الشيخ باتت عاصمة إقليمية للمناخ، في ظل ما تقدمه من نموذج فريد، بالإضافة إلى الظروف الاستثنائية، على المستوى الدولي، التي عقدت خلالها القمة على أرضها.
منتدى "الهيدروجين الأخضر"
ويعد تدشين منتدى "الهيدروجين الأخضر" بالشراكة بين مصر وبلجيكا، خلال فاعليات القمة، أحد أهم النجاحات التي حققتها الدولة المصرية، في إطار سعيها الدؤوب إلى استخدام مصادر نظيفة للطاقة، بالإضافة إلى تعزيز دبلوماسيتها المرتبطة بالطاقة، على اعتبار أن المنتدى الوليد يمثل "لبنة" جديدة لمنظمة أكبر تضم أطرافا أخرى من الدول المعنية بهذا المجال، في ظل الحاجة الملحة لمصادر نظيفة للطاقة، يمكن من خلالها "ترويض" الطبيعة الثائرة، في إطار حالة من الشراكة تتجاوز الإقليم الضيق، إلى مناطق أوسع عبر التعاون مع دول "الاتحاد من أجل المتوسط."
وتنبع أهمية التعاون مع بلجيكا، ليس في مجرد كونها دولة رائدة في هذا المجال فقط، وإنما باعتبارها عاصمة "أوروبا الموحدة"، وهو ما يمثل فرصة مهمة أمام قطاع أكبر من الدول في القارة العجوز، للمشاركة في المنتدى الوليد، مما يضفي له المزيد من الزخم، بالإضافة إلى وجود مصر، والتي تعد أحد أهم الأصوات الداعمة للدول النامية، مما يخلق تفاهمات من شأنها الوصول إلى توافقات فيما يتعلق بالخلافات القائمة حول القضايا التنموية وتقليل الانبعاثات وغيرها.
منتدى "الهيدروجين الأخضر" يمثل امتدادا صريحا لنهج دبلوماسي، اعتمدته الدولة المصرية، في إطار مجال الطاقة، حيث سبق لها وأن دشنت منتدى غاز شرق المتوسط، والذى انطلق "ثلاثيا"، بالتعاون مع كلا من اليونان وقبرص، للاستفادة من الموارد التي تملكها الدول الثلاثة، ليضم في عضويته بعد ذلك عددا أكبر من الدول، في انعكاس صريح لأهمية هذا القطاع، ليس فقط على المستوى الاقتصادي، عبر المساهمة في تحسين الأوضاع في الدول الثلاثة، وإنما أيضا فيما يتعلق بتعزيز العلاقات الدولية، ناهيك عن اقتحام نقاط جديدة من شأنها توسيع الدور المصري.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة