أتم الطالب حسن فتحى دراسته الثانوية، فقرر أن يتقدم لمدرسة الزراعة، والسبب كما يقول فى كتابه «عمارة الفقراء»، ترجمة دكتور مصطفى إبراهيم فهمى: «إحساسى تجاه الحياة الريفية»، لكن هذا الإحساس النبيل منه نحو الريف لم يساعده على تحقيق حلمه، حيث رسب فى اختبار الالتحاق، ويتذكر: «كان الامتحان يعقد للطلبة الذين يطمحون لدخول هذه المدرسة، ووقتها كانت خبرتى العملية بالفلاحة تقتصر فحسب على ما كنت أراه من نوافذ القطار، ولكنى ظننت أننى ربما أعوض ما لدى من أوجه قصور بأن أدرس النظريات الزراعية من المراجع، ودرست بعناية كل شىء عن كل محصول لوحده، وذهبت لأواجه الممتحنين، وكان الامتحان شفهيا».
يضيف: «سألنى الممتحن لو كان لديك حقل قطن وأردت أن تزرع فيه أرزا، ماذا ستفعل؟ أجبت: الأمر بسيط سوف أقتلع القطن وأزرع الأرز، ولم يقل شيئا، لكنه سألنى عن الزمن الذى يستغرق نمو الذرة، وخانتنى الذاكرة فقلت، ستة أشهر بدلا من ستة أسابيع، وسألنى الممتحن: متأكد أنت، فقلت: نعم، ربما سبعة أو حتى ثمانية أو هى تسعة أشهر، وصرفونى بأدب، ولم أدخل مدرسة الزراعة، وذهبت بدلا من ذلك إلى الفنون التطبيقية حتى اخترت دراسة العمارة».
هكذا أقدم حسن فتحى، المولود فى الإسكندرية يوم 23 مارس 1900، على تغيير مساره من الزراعة التى ذهب إليها بإرادته، إلى العمارة التى ذهب إليها كاختيار بديل، لكن هذا الاختيار لم ينسيه إحساسه النبيل تجاه حياة الريف، وبعد تخرجه ذهب إلى مدينة طلخا بمحافظة الدقهلية للإشراف على بناء مدرسة، فهاله ما رأى من منظر ورائحة الشوارع الضيقة الغارقة فى الطين وكل أنواع القذارة.
يتذكر، أن صورة هذه المدينة بوضعها ظلت تلازمه، وظل يفكر فى استسلام هؤلاء القرويين لحالهم استسلاما يائسا، ويضيف: «كنت أتعذب من عجزى أمام هذا المشهد، فمن المؤكد أن هناك شيئا ما يمكن عمله ولكن ما هو؟ إن الفلاحين غارقون جدا فى بؤسهم بما لا يسمح لهم بالمبادرة إلى التغيير. إنهم يحتاجون لبيوت لائقة، ولكن البيوت غالية».
صورة طلخا بشوارعها البائسة الغارقة فى فقر يقهر إرادة التغيير، جمعت عند حسن فتحى كل صور الريف بما عليه من حال فى السكن، واستدعت عنده كل طاقات الإبداع لسنوات ليضع حلا لها، حل لا يقهره الفقر، فكان إبداعه المعمارى الذى جعله، وحسب الدكتور محمد كامل القليوبى فى مقاله «عمارة الفقراء مكيفة الهواء» المنشور فى الأهرام، 7 نوفمبر 2014: «الأكثر تأثيرا بأفكاره على العالم بما أطلق عليه «عمارة الفقراء»، التى قدم نماذج عملية لها وصلت إلى ذروتها فى قيامه بتصميم وبناء قرية «القرنة الجديدة»، التى جاءت كعمل رائد على مستوى العالم».
يضيف القليوبى: «تنصب أفكار حسن فتحى المعمارية على إمكانية أن يقوم الفلاحون ببناء مساكنهم بأنفسهم باستخدام التربة التى يعيشون عليها، وإقامة مساكن صحية تتميز بجمال معمارى خاص مستمد من تراثهم بتكلفة مالية منخفضة، وعمل الأسقف من الطين بدلا من الخشب والخرسانة المسلحة».
يذكر حسن فتحى فى كتابه «عمارة الفقراء» الكثير من تطبيقاته العملية لنظريته فى العمارة، كتجربته فى البناء الطينى الكامل فى مزرعة الجمعية الملكية للزراعة فى بهتيم، وفى منازل بعض أصدقائه ومن بينهم الفنان الكبير حامد سعيد، وكان نتيجة ذلك أنه قدم أكثر من 110 مشروعات، أشهرها إلى جانب قرية القرنة الجديدة، قرية باريس بالوادى الجديد، واستطاع الوصول فيها إلى خفض هائل لدرجة الحرارة لتصل إلى 15 درجة مئوية باستخدام أساليب التهوية الطبيعية، وتم بناؤها بالطوب الرملى، ومسجد فى البنجاب بالهند عام 1950، واستخدم فيه لأول مرة بلاطات مطوية خفيفة الوزن.
يؤكد «فتحى» فى «عمارة الفقراء»: «إن مصر الحديثة ليس فيها أسلوب محلى، فالبصمة مفتقدة، وبيوت الأغنياء والفقراء هى على السواء بلا طابع، بلا لهجة مصرية»، غير أن السؤال الذى يطرح نفسه: هل ما زال المجال قائما لنظرية فتحى، الذى رحل فى 30 نوفمبر، مثل هذا اليوم، عام 1989؟
يقدم المهندس الاستشارى صلاح حجاب، أحد تلاميذ الراحل، جانبا على هذه الإجابة فى كتاب «أسطورة القصر والصحراء» للكاتب الصحفى محمد السيد صالح: اختزل المصريون فكر حسن فتحى فى عمارة القباب والقبوات التى قد تكون مناسبة فى موقع ما، ولا تكون مناسبة فى موقع آخر، بالرغم من أنه لم يقم هو بابتكارها، بل قام بهندستها فقط، فتحى أقام تطبيق الأسئلة الخمسة التى كان يعمل بها دائما: لمن نبنى؟ أين نبنى؟ كيف نبنى؟ من يبنى؟ من يدير ويصون؟.. فى قرية القرنة بالأقصر، وعندما حصل على جائزة بعد بنائها أهداها لمن سأله عن طريقة بنائها نفسها، والعمال الذين يقومون بذلك، وصبغها بالصبغة الهندسية.