كان الليل يغطى القناة، وعلى الضفة الشرقية عند القنطرة مجموعة رجال مثقلين بالأحمال لكنهم يمشون على الأرض خفافا كالأشباح، بوصف الكاتب الصحفى صلاح هلال فى تحقيق له بالأهرام يوم 17 ديسمبر 1968 بعنوان «فدائيون فى سيناء»، يكشف فيه عن بطولة مثيرة وقعت فى 11 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1968، أثناء حرب الاستنزاف للجيش المصرى ضد قوات الاحتلال الإسرائيلى فى سيناء بعد هزيمة يونيو 1967.
يذكر «هلال» أن هؤلاء الرجال كانوا ينظرون بين لحظة وأخرى إلى ساعاتهم المضيئة بالفسفور، ويقتربون من حافة القناة حتى إذا ما وصلوا إليها انسلوا من وسط الظلام كقطعة منه ونزلوا إلى الماء بأحمالهم، ومضوا فى صمت تدربوه، وخبروه، يسبحون إلى الضفة الغربية، وعندها وضعوا أحمالهم، وانسلوا عائدين.
كانت الحمولة عبارة عن ثلاث جوالات، فتحوا الأول وأخرجوا رجلا، والثانى وأخرجوا رجلا، والثالث وأخرجوا رجلا، وكان الثلاثة ضمن عصابة تضم 9 أفراد، تم القبض على ستة، وهرب هؤلاء الثلاثة حتى القبض عليهم فى عملية خاصة نفذها أبطال «منظمة سيناء العربية» بإشراف المخابرات الحربية المصرية.
يكشف «تحقيق الأهرام»، أن «منظمة سيناء العربية» هى منظمة للمقاومة الفدائية بدأت عقب معارك الأيام الستة مباشرة، وقام عناصرها بالعمل فى سيناء بتكوين بعض الأفراد لجماعات فدائية ثم توحدت هذه الجماعات فى «منظمة سيناء العربية»
يكشف «هلال» فى تحقيقه أن العمليات الفدائية فى سيناء بدأت حين قام العدو الإسرائيلى بتجميع مخلفات الحرب من ذخيرة وسلاح وتشوينها بمناطق مختلفة فى سيناء لنقلها إلى الداخل، وقررت مجموعة من شباب سيناء تدمير هذا المخلفات، وبرصدهم عرفوا أنه تم تكديس 30 ألف صندوق بمنطقة الشط فى مواجهة السويس، وفى منتصف ليلة 2 يوليو 1967 تسللت مجموعة فدائيين إلى قلب التشوين ووضعوا عبواتهم المتفجرة وضبطوا توقيت انفجارها بالأجهزة الزمنية، ثم عادوا لتقع الانفجارات التى سمعها أهالى السويس، والإسماعيلية، وبورسعيد، والزقازيق، ثمانى ساعات متوالية، وفى اليوم التالى اقترب الفدائيون من هذه الأرض المتفجرة، وتأكدوا من مقتل 27 من قوات العدو كانوا مكلفين بالحراسة، ومصرع أحد كبار قواد الجبهة الإسرائيلية الذى أسرع من داخل سيناء ليستطلع الأمر.
قرر العدو أن ينقل التشوينات الأخرى الفرعية، وأعد لهذه المهمة قطارا على الخط الحديدى تجاه العريش، وفى التاسعة مساء 6 يوليو 1967 توقف القطار بحمولته بمنطقة رمانة، حيث انفجرت فيه شحنة ناسفة شديدة زرعها الفدائيون، ولم يعد القطار فى استطاعته بعد ذلك أن يمر شبرا واحدا.
تعددت العمليات الفدائية وتنوعت لشهور، ويذكر تحقيق الأهرام أن قائد مخابرات العدو فى المنطقة واسمه «أبوفريد» فكر فى مواجهة النشاط الفدائى بالبحث عن عملاء، فاجتمع مع مجموعة غريبة جدا فى القنطرة شرق اسمها «مجموعة السيد سكر»، وهى عصابة من تسعة أفراد كانت تقوم بعمليات تهريب من غزة، ويطلق عليها فى القنطرة «شبيحة القطار»، وأبلغت مجموعة الفدائيين السلطات المصرية بما توصلت إليه من معلومات حول هذه اللقاءات ، وعرفت المخابرات الحربية أن «أبوفريد» كلف هذه العصابة بتنفيذ نسف السكة الحديد بين الإسماعيلية وبورسعيد عند الكيلو 51 والكيلو 61، ودربها، وأمدها بالمتفجرات اللازمة.
يكشف التحقيق أنه قبيل فجر 7 يوليو عبر ستة منهم القناة فى مركب صيد إلى القنطرة غرب، وعند الفجر عبر الثلاثة الباقون، وتفرقوا ثم التقوا فى مقهى بمحطة سكة حديد القنطرة الساعة السابعة والنصف مساء فى نفس اليوم، ومضوا إلى هدفهم وعندما بدأوا يحفرون تحت خط السكة الحديد لوضع أصابع الديناميت، أطبقت عليهم كمائن كانت تنتظرهم، وقبض على ستة بينما فر ثلاثة ألقوا بأنفسهم فى القناة يسبحون إلى الضفة الشرقية.
يذكر التحقيق أن المخابرات الإسرائيلية قامت بتدريب الثلاثة بحيث يعبرون القناة ويختفون فى الضفة الغربية، وعندما تحدث اشتباكات يحاولون بإشارات معينة أن يصححوا الضرب ويحددوا مواقع معينة واتجاهات مختلفة من مدافع أو دبابات أوقوات فى خنادق، وعرفت مجموعة الفدائيين بهذه التفاصيل، فقرروا القبض عليهم بأى طريقة، وبدأوا فى جمع المعلومات عنهم وعرفوا أنهم يحتمون بمكتب مخابرات إسرائيل وينامون فى حجرة فيه مطلة على طريق جانبى، تطل فى الوقت ذاته على حديقة الفيلا التى يتخذها مكتب المخابرات فى غرب القنطرة شرق، وتم وضع خطة محكمة لاختطافهم، وفى الساعة الثانية عشر يوم 11 ديسمبر تم التنفيذ.
كان فى الحجرة اثنان فقط تم تخديرهما ووضعهما فى جوالين، وحملهما على الأكتاف دون أن يشعر أحد من الإسرائيليين الذين ينامون فى حجرات مجاورة، وفى جرأة وتصميم اتجه الفدائيون بالرجلين داخل الجوال وسط القنطرة شرق، وعبروا شوارعها إلى منزل الثالث، وكان موجودا فيه، وفى لحظات أحالته جرعة مخدرة إلى جثة انضمت فى جوال ثالث إلى الحمولة لينطلق بها الفدائيون ويعبروا القناة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة