1 شارع مجلس الشعب القصر العينى القاهرة، حيث مقر البرلمان المصرى، كان يجلس الدكتور صوفى أبو طالب رئيس مجلس الشعب، فى مكتبه بينما يدخل عليه اثنان من عمالقة قراء القرآن الكريم فى فترة الثمانينيات الشيخ محمود على البنا، والشيخ أحمد الرزيقى، بينما تكسو وجوههما ملامح الغضب والضجر، لتأخر مجلس الشعب فى طرح مقترح قانون إنشاء نقابة قراء القرآن الكريم فى الجلسة العامة للبرلمان، تمهيدا للموافقة عليه وإصدار القانون بإنشاء النقابة.
إعداد مشروع القانون
فكرة تأسيس نقابة لقراء القرآن الكريم راودت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ محمود على البنا والشيخ أحمد الرزيقى وعدد ليس بالقليل من قراء القرآن الكريم فى أواخر السبعينات، وذهب البنا إلى المحامى عصمت الهوارى، والد زوجة ابنه "أحمد"، الذى روى هذه الواقعة لـ "اليوم السابع"، فطلب منه مساعدة قراء القرآن الكريم فى إعداد مشروع قانون لإنشاء نقابة لقراء ومحفظى القرآن الكريم، وإرساله لمجلس الشعب لإقراره.
"عدية يس"
يضيف "الشيخ أحمد" نجل الشيخ محمود على البنا: "ظل مقترح القانون فترة طويلة حبيس الأدراج فى مجلس الشعب، فذهب والدى والشيخ أحمد الرزيقى للقاء رئيس المجلس فى ذلك الوقت، وأبلغوه غضبهم من تأخر طرح القانون للمناقشة فى الجلسات العامة، وتعلل رئيس المجلس برفض الأزهر الشريف بعض المواد، فغضب والدى وقال أثناء خروجه من مكتب رئيس مجلس الشعب.. لو لم تطرح القانون فى الجلسة العامة للمناقشة سأجمع قراء القرآن الكريم ونذهب لمسجد سيدنا الحسين ونقرأ عليك سورة يس "عدية يس"، فقال رئيس المجلس للشيخ أحمد الرزيقى "الحقه يا رزيقى أنا مش حمل عدية يس".
الرئيس السادات يتدخل لإنشاء نقابة القراء
واستطرد الشيخ أحمد محمد على البنا على لسان والده: "بعدها علم والدى بوجود الرئيس الراحل محمد أنور السادات فى استراحة القناطر فذهب والشيخ الرزيقى للقائه، حيث طلبا الدخول للقاء الرئيس وبالفعل التقوا مدير مكتب الرئيس السادات فى ذلك الوقت "فوزى عبد الحافظ"، وبينما يتحدثوا إليه فى أمر مشروع قانون النقابة إذا بالرئيس السادات يدخل عليهم ويروون له المشروع فاتصل على الفور برئيس مجلس الشعب وطلب منه أن يدرج مشروع القانون فى الجلسات العامة، وبالفعل ظل المجلس يناقشه إلى أن خرج القانون للنور ".
فى 4 أغسطس عام 1983 صدر القرار الجمهورى بإنشاء نقابة لمحفظى وقراء القرآن الكريم، ولم يكن ليصدر هذا القرار بهذه السهولة فقد سبقه محاولات عديدة لكبار قراء القرآن الكريم فى ذلك الوقت لإصدار القرار وتأسيس نقابة لهم تظلهم بمظلة نقابية وتضع شروطًا فيمن يتلو القرآن الكريم وينتسب لدولة التلاوة المصرية، تلك الدولة التى حظى أعضائها بمكانة لم يحصل عليها أى قارئ فى العالم، وبعد صدور القرار وتأسيس النقابة رفض الشيخ محمود على البنا الذى حارب مع زملاؤه فى دولة التلاوة لإنشاء النقابة تولى أى منصب بها، إلا أن القراء أصروا على ذلك فاختاروه نائبا للنقيب الشيخ عبد الباسط عبد الصمد.
ميلاد البنا بعد وفاة 4 أبناء
الزمن: فى عشرينيات القرن الماضى... المكان: قرية شبرا باص التابعة لمركز شبين الكوم التابع لمحافظة المنوفية، تلك القرية التى كانت كبقية قرى الريف المصرى تتسم ببساطة المنازل الريفية، ومعرفة الأهالى بعضهم بعضًا وكأنهم عائلة واحدة.
الحدث: كان الحاج "على البنا" أحد سكان القرية قد أدى صلاة الفجر ثم عاد إلى منزله البيسط وظل يدعو الله سبحانه وتعالى أن يكون من فى بطن زوجته "ذكر"، بعد أن فقد 4 أبناء فى نحو 4 سنوات متتالية كان الموت يخطفهم فور ولادتهم، ولم يكن له من الأبناء فى ذلك الوقت سوى طفلته الوحيدة "رتيبة" المولودة فى عام 1921، وكأن السماء كانت على مصراعيها، فاستجاب الله سبحانه وتعالى لدعاء الحاج على وزوجته، فرزقهما "الولد" فى مثل هذا اليوم 17 ديسمبر عام 1926، فسجد الحاج على شكرًا لله على عطيته، ونذر بأن يهب مولوده "محمود"، للقرآن الكريم، ودعا الله قائلاً: "يا رب احفظه.. ليحفظ قرآنك".
ألحق الحاج على البنا، صغيره بكٌتاب القرية، ليفى بنذره لله بأن يهب الطفل للقرآن الكريم، وأتم حفظ القرآن الكريم وعمره نحو 10 سنوات، على يد الشيخ موسى المنطاش، شيخ الكتاب، وعاش الحاج على يتباهى بابنه "محمود" الذى وهبه للقرآن الكريم وأطلق عليه أهل القرية لقب "الشيخ الصغير" لعذوبة صوته وإتقانه فن التلاوة فى هذه السن الصغيرة، وأراد والده أن يكمل الوفاء بنذره فألحقه بعد نصيحة أحد أصدقائه بمعهد المنشاوى الأزهرى فى طنطا، وكان "الشيخ محمود" يحب الاستماع لكبار قراء القرآن "الصييتة" الذى يأتون للتلاوة فى مسجد السيد البدوى بطنطا، ثم يستمتع بتلقيدهم أمام أقرانه بمعهد المنشاوى، واشتهر وقتها بتقليد كبار القراء أمثال الشيخ محمد سعودى والشيخ محمد رفعت، وتنبأ له الشيخ حسين معوض شيخ المعهد بمستقبل واعد فى دولة التلاوة.
الانضمام للإذاعة وميلاد جديد للبنا
عٌين الشيخ محمود على البنا قارئاً لجمعية الشبان المسلمين فى القاهرة عام 1947، وذاع صيته أكثر وأكثر حيث تلا القرآن الكريم فى الكثير من المحافل الرسمية، والتحق بعدها وتحديدًا يوم 17 ديسمبر عام 1948 بالإذاعة المصرية، ليصبح هذا التاريخ الذى وافق مصادفة تاريخ مولده، هو ميلاد جديد للشيخ محمود على البنا، حيث جاءه خطاب من الإذاعة فى ذلك اليوم تقول فيه: "تقرر وضعكم على البرنامج يوم 17/12/1948 فى تلاوة صباح ذلك اليوم فى السابعة صباحا ولمدة ثلاثون دقيقة.. التلاوة لما تيسر من سورة هود بدءًا من " وإلى ثمود أخاهم صالحًا..." وحتى "وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.. "، وكانت هذه النصف ساعة هى الانطلاقة للشيخ محمود على البنا ليحجز مقعده بين كبار قراء القرآن الكريم.
فى نهاية الأربعينيات اٌختير الشيخ محمود على البنا قارئاً لمسجد عين الحياة، ثم مسجد الإمام الرفاعى فى نهاية عام 1956، التابع للخاصة الملكية فى ذلك الوقت، أو مسجد "الملوك" كما كان يطلق عليه الناس، فكان ذلك تكريمًا للشيخ محمود على البنا، غير ناظر الخاصة الملكية فى ذلك الوقت محمد سالم باشا اعترض على ترشيح الشيخ البنا ليكون قارئًا للسورة فى المسجد، وطلب أن يستمع إليه بنفسه أولاً، وما أن استمع إليه حتى أدرك سبب تمسك اللجنة لاختيار البنا قارئًا للسورة بمسجد الرفاعى.
فى عام 1958 اختارت وزارة الأوقاف، الشيخ محمود على البنا قارئًا للسورة بمسجد البدوى بطنطا خلفًا للشيخ محمود خليل الحصرى الذى انتقل قارئًا للسورة بمسجد الإمام الحسين بالقاهرة، وظل البنا يتلو القرآن الكريم فى مسجد السيد البدوى نحو 23 عامًا متواصلة حتى ارتبط اسمه باسم المسجد فأطلق عليه الناس "مقرئ المسجد الأحمدي"، ثم عاد الشيخ محمود على البنا فى عام 1980 البنا قارئًا بمسجد الإمام الحسين حتى وفاته.
البنا يسجل القرآن مرتلا بأمر الرئيس عبد الناصر
فى عام 1967 شارك الشيخ محمود على البنا مع زملائه من كبار القراء المعتمدين فى الإذاعة المصرية، فى إحياء ليلة مأتم والد الرئيس جمال عبد الناصر بمحافظة الإسكندرية، وفى صباح اليوم التالى تلقى الشيخ البنا اتصالا هاتفيا من محمد أحمد سكرتير الرئيس عبد الناصر يطلب منه مقابلة الرئيس فى منزله بالإسكندرية، وهناك أبدى الرئيس عبد الناصر إعجابه بصوت البنا، وطلب أن يستمع إلى تلاوة مرتلة، ويروى البنا تفاصيل هذا اللقاء فى مقابلة إذاعية مسجلة :"بادرت على الفور بتلاوة ما تيسر من سورة الإسراء من قوله تعالى: "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل"، حتى آخر السورة، فبادر الرئيس عبد الناصر سكرتيره محمد أحمد قائله فى دهشة: "لماذا لم أسمع صوت الشيخ البنا فى إذاعة القرآن الكريم حتى الآن، اطلب من الإذاعة أن تسجل المصحف المرتل للشيخ محمود على البنا مع كبار القراء"، وكانت إذاعة القرآن الكريم فى ذلك الوقت حديثة الإنشاء فقد افتتحت عام 1964، وكانت قاصرة فى إذاعة المصحف المرتل على صوت الشيخ محمود خليل الحصرى، ثم الشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمد صديق المنشاوى.
تلاوة القرآن الكريم فى المسجد النبوى
زار الشيخ محمود على البنا العديد من دول العالم، وقرأ القرآن فى الحرمين الشريفين والمسجد الأموى، وحول تلاوة الشيخ محمود على البنا فى الحرمين الشريفين، يروى ابنه أحمد البنا فى تصريحات سابقة لـ "اليوم السابع":" لم يكن أى قارئ يتلو فى الحرمين الشريفين إلا بتصريح من الملك، وكان والدى يحج فى إحدى الأعوام وأراد أن يتلو القرآن الكريم فطلب قارئ الحرمين من الملك التصريح له وبالفعل وافق، غير أنه وأثناء تلاوته بالمسجد النبوى أجهش بالبكاء أكثر من مرة ولم يستكمل تلاوته وطلب منهم أن يتلو فى اليوم التالى، وكان يقول فى نفسه كيف أتلو القرآن الكريم أمام سيدنا النبى وعليه أٌنزل القرآن".
يضيف الشيخ أحمد البنا: "وقف والدى أمام قبر النبى صلى الله عليه وسلم وظل يردد عبارات من قبيل الاستئذان من النبى صلى الله عليه وسلم أن يتلو القرآن الكريم أمام قبره، وفى اليوم التالى قرأ القرآن الكريم من سورة الأحزاب وكان الحجاج يطلبون منه إعادة الآيات أكثر من مرة".
فى صباح يوم الجمعة 19 يوليو من عام 1985، جلس الابن "أحمد البنا" أمام أحد الأسرة داخل مستشفى خاص بالقاهرة، وبدأ يرتل القرآن الكريم بناء على طلب والده الذى يتلقى العلاج بالمستشفى، إلى أن وصل إلى قوله تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك.." فإذا بصوت الابن يختنق، وتغالبه الدموع، وساد الصمت فى الحجرة الصغيرة وقال الأب هذا هو الطريق يا ابنى"، وطلب من ابنه إحضار ورقة وقلم وأملا عليه نعيه بل وحدد له حجم الصورة الشخصية وقال اكتب يا أحمد "توفى إلى رحمة الله تعالى الشيخ محمود على البنا فقيد العالم الإسلامى والإذاعات العربية والإسلامية ونائب نقيب القراء وقارئ مسجد الإمام الحسين عن عمر يقارب الستين عامًا.... "، فأجهش الابن بالبكاء وكل من فى الحجرة.. - والرواية على لسان ابنه أحمد البنا-، وبعدها بدقائق طلب حضور الشيخ محمد متولى الشعراوى، وبمجرد وصوله إذا بالدموع تنهمر من الشيخ الشعراوى، حيث دار بينهما حوار كوداع الأحبة.. وفى صباح اليوم التالى غيب الموت "صوت تحبه الملائكة"، وهو اللقب الذى اختارته ابنته الكاتبة الصحفية آمال البنا عنوانا لكتاب يروى سيرة حياة والدها وقالت إنها استوحته من رؤيا صادقة لأحد محبى الشيخ من جمهوره عندما اتصل بهم ليبلغهم أنه رأى الشيخ فى منامه يتلو القرآن الكريم فقال أحد الحاضرين فى المنام:"هذا صوت تحبه الملائكة".
مولد الشيخ البنا
أصبح للشيخ محمود على البنا مولدًا رسميًا مسجل بمشيخة الطرق الصوفية، وهو ما يرويه نجله الشيخ أحمد البنا، قائلاً: "بعد وفاة والدى بعدة سنوات رأيت أنا وإخوتى وعدد من محبى الشيخ رؤيا فى المنام كانت تقريبا واحدة، وهى أن والدى يخرج من الضريح ونشاهد مقصورة حول الضريح وقبة ولم يكن هناك مقصورة أو قبة ويردد والدى أيوا حاجة زى كدة زى سيدى صالح الجعفري".
ويتابع نجل الشيخ أحمد محمود على البنا: "ذهبنا للشيخ محمد متولى الشعراوى وقصصنا عليه الرؤيا فقال يا ابنى أبوك عايز مقصورة وقبة ولكننا تقاعسنا قليلاً، إلى أن أتى فى إحدى الأيام الشيخ أحمد القصبى شيخ مشايخ الطرق الصوفية فى ذلك الوقت وكان نحو عام 1993، دخل علينا المسجد وقال أريد أن أجلس بجوار ضريح الشيخ وبالفعل جلس قليلاً ثم خرج وقال الشيخ طلبنى وأنا جيتله، واحنا هنعمل مولد للشيخ، وأصدرنا قرار رسمى من المشيخة بإدراج مولد للشيخ محمود على البنا ضمن موالد مشيخة الطرق الصوفية، وأخذ مقاسات الضريح ونشر قرار رسمى بذلك"، لافتا إلى أن ضريح الشيخ محمود على البنا بجوار مسجده الذى شيده فى قريته شبرا باص التابعة لمركز شبين الكوم بالمنوفية.