ألقى الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، خطبة الجمعة بمسجد مؤسسة الأهرام بمحافظة القاهرة اليوم، تحت عنوان: "حق الزمالة والجوار"، وذلك بحضور عبد المحسن سلامة رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، وعلاء ثابت رئيس تحرير صحيفة الأهرام، وفى خطبته أكد وزير الأوقاف أن أمة بلا قيم هى أمة بلا حياة، وأنه لا حياة لأمة بلا قيم ولا أخلاق، فالقيم والأخلاق ميزان استقامة الأمم، والدين قائم على التراحم لا الأنانية، مشيرًا إلى أن قيمة الوفاء ورد الجميل من أعظم القيم الإنسانية، وأن حق الزمالة والجوار حق عظيم.
كما أكد وزير الأوقاف أن الحضارات التى لا تبنى على القيم والأخلاق تحمل عوامل سقوطها فى أصل بنائها، يقول الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وبانعدام الأخلاق ينعدم الأمن النفسى والمجتمعي، وضعف القيم والأخلاق يعنى حالات متعددة من التوتر الأمنى والنفسى والمجتمعي، ولذا عُنى الإسلام بالأخلاق عناية بالغة ولخص النبى (صلى الله عليه وسلم) أهداف رسالته بقوله: "إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ"، فمع أهمية العبادات والشعائر الأخرى لم يقل (صلى الله عليه وسلم) بُعثت لأعلِّم الناس الصلاة أو الصيام أو الزكاة وإنما قال: "إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ".
ومن هذه المكارم ما ذكره الحق سبحانه وتعالى فى قوله: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا"، فقد بدأ النص القرآنى بتوجيه عام بتوحيد الله (عز وجل)، ثم اتجه لمنظومة القيم، مؤكدًا على حق الوالدين وحق الجوار بكل أبعاده.
فالإسلام يوصى خيرًا بكل من بينك وبينه صلة، سواء فى دراسة أم عمل أم زمالة أم غير ذلك، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): "ما زال جبريلُ يوصينى بالجارِ حتَّى ظننتُ أنه سيورِّثُه"، ويقول (صلى الله عليه وسلم): "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره"، والأمر هنا يشمل جميع أنواع الجيرة والزمالة.
كما أوضح أن من أهم حقوق الجيران والزمالة كف الأذى، فالحد الأدنى إن أنت لم تنفع فلا تضر، يقول (صلى الله عليه وسلم): "إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ الناسِ مَفَاتِيحَ لِلشرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشرِّ عَلَى يَدَيْهِ" فإن أنت لم تنفع فعلى الأقل لا تضر بأى نوع من أنواع الأذى، فالحق الأول هو كف الأذى، أما الحق الثانى هو احتمال الأذى؛ يقول الحسن البصري: "ليس حسن الجوار كف الأذى، وإنما حسن الجوار الصبر على الأذى"، ويقول سبحانه: "وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِى حَمِيمٌ"، أما الحق الثالث فهو حسن العشرة وحسن المعاملة وقضاء الحوائج، يقول الشاعر:
إِنَّ أخاكَ الحَقّ مَن كانَ مَعَك
وَمَن يَضِرُّ نَفسَهُ لِيَنفَعَك
وَمَن إِذا ريبَ الزَمانُ صَدَعَك
شَتَّتَ فيكَ شَملَهُ لِيَجمَعَك
إن الصديق الحقيقى إذا غاب تشعر أن جزءًا منك ليس فيك، ليس كهؤلاء الذين هم كالذباب الذى لا يقع إلا حيث يكون العسل، يماسحك أحدهم كما يماسحك الثعبان، ويقبع منك كما يقبع القنفذ، ويراوغك كما يراوغك الثعلب، فهؤلاء لا تجدهم إلا على أطراف مصائبك، فليسوا من الأصدقاء ولا من الوفاء فى شيء.
وثالث الحقوق حسن العشرة والعمل على قضاء الحوائج ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، يقول الشاعر:
الناس للناس مادام الوفاء بهم
والعسر واليسر أوقات وساعات
لا تقطعن يد المعروف عن أحد
ما دمت تقدر والأيام تارات
وأكرم الناس ما بين الورى رجل
تقضى على يده للناس حاجات
واذكر فضيلة صنع الله إذ جعلت
إليك لا لك عند الناس حاجات
فمات قوم وما ماتت فضائلهم
وعاش قوم وهم فى الناس أموات
وتلك الأيام نداولها بين الناس
كما أكد وزير الأوقاف أن حق الجار والزمالة حق عظيم، حيث يقول (صلى الله عليه وسلم): "واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذى لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ"، أى الذى لا يطمئن جاره إليه ويخشى أذاه، وسأل رجُلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ متى أكونُ مُحسِنًا ؟ قال: "إذا قال جيرانُك: أنتَ مُحسِنٌ فأنتَ مُحسِنٌ وإذا قالوا: إنَّك مُسيءٌ فأنتَ مُسيءٌ".
ثم إن الناس فى رد الجميل وفى الزمالة على قسمين، قسم نفَّر العلماء والأدباء والشعراء منهم وهم الذين ينكرون الجميل، ويصدق فيهم قول الشاعر:
أعلِّمه الرمايةَ كلَّ يومٍ
فلما اشتدّ ساعدُه رماني
وكم علّمتُه نظْمَ القوافي
فلمّا قالَ قافيةً هجاني
فديننا وقيمنا على العكس من ذلك، وقد ضرب الرسول (صلى الله عليه وسلم) أروع الأمثلة فى الوفاء ورد الجميل، حيث كانت أم أيمن حاضنته بعد وفاة أمه، وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول عنها: "هى أمى بعد أمي"، وكذلك السيدة فاطمة بنت أسد زوج عمه أبى طالب قال عنها (صلى الله عليه وسلم): "لم نلق بعد أبى طالب أبرَّ بى منها"، ولما ماتت فعل معها ما لم يفعله مع أحد من أبنائه، حيث كفنها فى قميصه، فلما جاءوا بها قال: تمهلوا، واضطجع النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قبرها، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم) فى حق صاحبه أبى بكر (رضى الله عنه): "إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عَلَى فى صُحْبَتِهِ ومَالِهِ أبو بَكْرٍ"، ويقول: "ما لِأَحدٍ عندَنَا يَدٌ إلَّا وقَدْ كافأناهُ، ما خلَا أبا بكرٍ، فإِنَّ لَهُ عِندنَا يَدًا يُكافِئُهُ اللهُ بِها يَومَ القيامَةِ، ومَا نفَعَنِى مَالُ أحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعِنى مالُ أبى بِكْرٍ، ولَوْ كنتُ متخِذًا خَلِيلًا، لاتخذْتُ أبا بكرٍ خلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صاحبَكُمْ خليلُ اللهِ"، فانظر إلى عظمة هذا الوفاء، ولما وقعت ابنة حاتم الطائى فى الأسر قالت لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): كان أبى يَفُكُّ العانِي، وَيَحْمِى الذِّمارَ، ويُقْرِى الضَّيفَ، وَيُشْبِعُ الجائِعَ، وَيُفَرِّجُ عن المكروبِ، ويُطْعِمُ الطعامَ، ويُفْشِى السلامَ، ولم يَرَدَّ طالبَ حاجةٍ قطُّ، فقال (صلى الله عليه وسلم): "هذه خصال المؤمن، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وإن الله يحب مكارم الأخلاق"، فأكرمها النبى (صلى الله عليه وسلم) لما كان من حسن خلق أبيها على جاهليته، فالوفاء الوفاء، الوفاء للزملاء، والوفاء للأساتذة والمعلمين، ولمن أحسنوا إلينا، وللجيران، فلو طبقنا هذه القيم لاستقرت حياتنا وعمتها السكينة.
صلاة الجمعة
الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف