رغب محمد على باشا والى مصر فى إرضاء الدول الكبرى، فقرر منح مسلة إلى فرنسا وأخرى إلى إنجلترا، وكان عالم المصريات الفرنسى «شامبليون» فى زيارة لمصر عام 1828 واستقبله محمد على، حسبما يذكر روبير سوليه فى كتابه «مصر ولع فرنسى»، ترجمة لطيف فرج، مضيفا: «أعجب شامبليون بالمسلتين «ابرتا كليوباترا» حين نزل الإسكندرية فى أغسطس 1828، فأرسل خطابا إلى شقيقه، أعرب فيه عن أمنيته بأن تأخذ فرنسا هديتها قبل أن تفلت الفرصة منها، لكنه حين وصل إلى الأقصر أصيب بنشوة وذهول، ووقع أسير الإعجاب بمسلتين أخريين من الجرانيت الوردى عند مدخل المعبد، ووجد أنهما أفضل بكثير من مسلتى الإسكندرية».
يذكر«سوليه» أنه فى إبريل 1830 استقبل محمد على رسولا من ملك فرنسا، شارل العاشر، ليعرب له عن امتنان فرنسا منحها بسخاء مسلتى الأقصر وواحدة من مسلتى الإسكندرية، لكن كان ثلاث مسلات كثيرا للغاية، فاكتفوا بواحدة من الأقصر اختارها شامبليون، وتزن 230 طنا، مما أوجد مشكلة فى نقلها من الأقصر إلى باريس، خاصة أن شامبليون استبعد تقطيعها إلى أجزاء، ووصف مثل هذا العمل بأنه «تدنيس للمقدسات».
قام ملك فرنسا بتشكيل لجنة خاصة لتنفيذ اقتراح شامبليون ببناء سفينة خاصة لعملية النقل، تكون ذات قاع مستوى تستطيع السفر فى البحر والصعود فى نهر النيل بمصر، والنزول فى نهر السين بفرنسا لتفادى نقل المسلة من سفينة إلى أخرى، وبدأ العمل فى السفينة الجديدة بميناء طولون وسميت الأقصر، ويذكر سوليه، أن سفينة «الأقصر» غادرت فرنسا يوم 15 إبريل 1831، وعلى ظهرها طاقم من 150 شخصا يضم نجارين وحدادين ونحاتى حجر، وميكانيكيين، ووصل هذا الطاقم إلى مدينة الأقصر يوم 14 أغسطس 1831، وأقام أفراده وسط أطلال طيبة وعاشوا فيها لمدة عام، قاموا خلاله بتحويل جزء من المعبد القديم إلى حى للبحارة مزود بمساكن منفصلة للأنباشية والرقباء، وأقام الضباط فى شقق علوية مزودة بأثاث بحرية، وبنوا مطبخا وفرنا ومطحنا ومخبزا ومخزنا للأسلحة وآخر للبارود والمتفجرات، ومستشفى يضم ثلاثين سريرا، وكان هذا التجهيز بمثابة «مدينة فرنسية فى أحضان معبد فرعونى».
توقف العمل فى نقل المسلة لتفشى وباء الكوليرا ثم عاد، حتى غادرت مقعدها يوم 31 أكتوبر 1832، وفى اليوم التالى كتب قبطان السفينة إلى شامبليون، قائلا: «ابتهج معنا يا سيدى المواطن العظيم، لقد غادرتنا الكوليرا وخضعت المسلة الغربية بالأقصر أمام أبسط الوسائل الميكانيكية الحديثة، فقد أمسكنا بها أخيرا ومن المؤكد أننا سنحضر إلى فرنسا هذا الصرح، الذى لا بد أنه سيزودكم بمادة لدروسكم الممتعة، وسيحوز على إعجاب العاصمة، ستشهد باريس ما صنعته حضارة قديمة من أجل صيانة التاريخ فى ظل انعدام مطبعة، وسترى أنه إذا كانت فنوننا مدهشة، فإن شعوبا أخرى صنعت فنونا قبلنا بأزمان طويلة لا تزال نتائجها المدهشة تذهلنا حتى اليوم».
يذكر «سيونيه»، أنه كان يفصل المسلة عن ساحل النيل مائتان وستون مترا، وتم التغلب عليها بالتفاوض مع الفلاحين لشراء أكواخهم وهدمها لإفساح الطريق، وتم اتخاذ احتياطات لا حصر لها من أجل نقلها على قضبان من الخشب وبمعاونة أربعمائة عامل تم استئجارهم محليا.
اضطرت السفينة «الأقصر» إلى انتظار الفيضان، فلم تترك طيبة إلا فى 22 أغسطس 1833، وقضى الفرنسيون هذه الإقامة الجبرية فى الصيد وزيارة الآثار، وأخيرا انحدرت «الأقصر» فى النيل على مراحل، لكنها اضطرت إلى الإقامة فى رشيد لفترة لصعوبة عبورها من النيل إلى البحر المتوسط، ولهذه المهمة تم استدعاء إحدى أوائل السفن البخارية التى امتلكتها فرنسا واسمها «أبوالهول».
فى النهاية وصلت سفينة الأقصر إلى ميناء «طولون» الفرنسى يوم 10 مايو 1833، ويذكر «سيونيه» أن طاقمها واجه فى «طولون» مفاجأة حجزهم بالحجر الصحى بالرغم من احتجاجهم، وفى 20 يونيو 1833 تسـتأنف «الأقصر» رحلتها فى اتجاه مدينة روان الفرنسية عن طريق جبل طارق، وتعبر مصب نهر السين ثم تصعد فى النهر حتى باريس وتصلها فى 23 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1833، بعد 32 شهرا من بدء العملية.
يؤكد «سوليه»: «لم يحظ مبدأ نصب المسلة فى باريس بموافقة جميع الناس، فرفاعة الطهطاوى لم يوافق على هذا التبديد للثروات القومية، ويبلغ محمد على برأيه هذا، لكنه لا يستمع إليه: «ألم يفكر الوالى فى تفكيك أحد أهرام الجيزة لبناء السدود، فالآثار القديمة ليست فى نظره سوى أنها مادة أولية أو أداة سياسية»، يضيف: «بعد ثلاث سنوات وفى 22 أكتوبر 1836 تجمع جمهور كبير لمشاهدة نصب المسلة، وكان على ناصية شارع «سان فلورانتين» المجاور أوركسترا من مائة عازف يعزفون قطعة «أسرار إيزيس الخفية».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة