كانت الساعة الحادية عشرة مساء 30 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1921، حين قامت سيارات تقل سعد زغلول باشا ورفاقه وخادمين، حسبما يذكر عبدالرحمن فهمى فى الجزء الرابع من مذكراته «يوميات مصر السياسية»، مضيفا: كان فى بور توفيق لنش معد لتوصيلهم إلى الوابور «فرنز فرديناند» الذى كان واقفا فى الميناء، وقد حُول هذا الوابور الضخم إلى نقالة حربية.
يذكر «فهمى» أنه كان من قواد اللنش أحد البحارة الوطنيين، الذى تمكن من الوصول إلى سعد باشا وحياه، ولما سأله سعد عن وجهة السفر أجابه: «سننزل الآن فى عدن»، ولم يزد على ذلك كلمة وانصرف، وفى منتصف الليل تماما، الساعة 12، أقلعت الباخرة من مرساها متجهة جنوبا قاصدة عدن.
جاءت هذه الخطوة بعد أن قامت السلطة العسكرية للاحتلال البريطانى فى مصر، يوم 22 ديسمبر 1921، بالتنبيه على كل من سعد باشا وفتح الله بركات باشا، عاطف بركات بك، صادق بك حنين، مصطفى بك النحاس، سينوت بك حنا، جعفر بك فخرى، مكرم عبيد، أمين عزالعرب، بأن يكفوا عن كل عمل سياسى، سواء كان بإلقاء الخطب أو بحضور الاجتماعات العامة أو بنشر المقالات فى الصحف، وبالتزام منازلهم فى بلادهم وعزبهم، ويذكر عبدالرحمن فهمى، أن سعد لم يكد يطلع على البلاغ المرسل إليه حتى بادر فى الحال برفضه، وباعتباره رئيس الوفد المصرى كتب إلى مستشار وزير الداخلية الجنرال «كلايتن» خطابا، انتهى فيه إلى القول: «سأبقى فى مركزى مخلصا لواجبى وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء أفرادا وجماعات، فإنا جميعا مستعدون للقاء ما تأتى به بجنان ثابت وضمير هادئ، علما بأن كل عنف تستعمله ضد مساعينا المشروعة إنما يساعد البلاد على تحقيق أمانيها فى الاستقلال التام».
أصدر المعتمد البريطانى فى مصر وحاكمها العسكرى اللورد اللنبى أمرا عسكريا نصه: «غير مرخص لأى بنك أو محل أو شخص لديه أى مبلغ أو نقود أو ودائع أو غير ذلك، باسم أو لحساب أو تحت تصرف سعد باشا زغلول أو الجماعة المعروفة باسم الوفد أو أى شخص من أعضائه أو موطفيه أن يدفع أى شىء من تلك المبالغ أو النقود، أو أن يقبل أى شيك أو حوالة أو إذن صرف على المبالغ أو النقود المذكورة إلا بإذن كتابى منى».
يذكر «فهمى» أنه لم يكد هذا البلاغ يصل إلى سعد زغلول باشا حتى اشتهر فى القاهرة، لأن جماعة من الناس والطلبة كانوا فى بيت الأمة «بيت سعد زغلول» فى ذاك الوقت، فعرفوا الخبر وأذاعوه، فقامت عدة مظاهرات فى جهات متفرقة من شارع عبدالعزيز والعتبة الخضراء والموسكى وباب الخلق، وانبرى البوليس لتفريق المظاهرات، وأطلق عدة أعيرة نارية فى الهواء والعتبة الخضراء والمبتديان، فدار القتال بين رجال البوليس والجمهور فأصيب كثير من الفريقين.
فى الساعة الثامنة والربع صباح 23 ديسمبر 1921، أوفدت السلطة العسكرية قوة من الجنود الإنجليز، وحاصرت بيت الأمة، وأبلغت سعد أمرا بالاستعداد لمغادرة البيت، وانطلقت به عربة كانت تنتظر أمام البيت إلى جهة غير معلومة، وفى نفس اليوم وبعد منتصف النهار، قامت قوة إنجليزية بالذهاب إلى منزل فتح الله بركات باشا، وتم القبض عليه ومعه عاطف بك بركات ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وسينوت بك حنا، ويذكر فهمى أن السلطة العسكرية لما اعتقلت سعد ذهبت به إلى جهة العباسية ومنها إلى السويس، وفى 25 ديسمبر 1921 وصل إلى السويس أيضا قطار خاص يقل باقى المعتقلين، وعند مرور القطار على مدينة الإسماعيلية، احتشدت الجماهير الغفيرة على رصيف المحطة لمشاهدتهم، ولكن الشعب لم ير إلا عربة مغلقة من الدرجة الأولى وعليها رجال البوليس الإنجليزى وهم شاهرون سلاحهم وعلى رؤوسهم خوذاتهم، فنادى الجمع المحتشد بسقوط الظلم والاستبداد والحماية، وهتفوا بحياة سعد وصحبه، ففرقهم الجنود الإنجليز.
يرصد فهمى رد الفعل الشعبى، مؤكدا أن كثيرا من طلبة المدارس والمعاهد الدينية والأزهر والأهالى قاموا بالمظاهرات، ووقعت مصادمات حول الأزهر، وأغلق تجار العقادين والسكرية والغورية والفحامين والسكة الجديدة متاجرهم، وأسفرت المظاهرات عن وقوع قتلى ومصابين بلغ عددهم 65 شخصا، وامتدت المظاهرات إلى الإسكندرية وطنطا والمنصورة، وأضرب المحامون والمدرسون والموظفون، واحتج علماء الأزهر ورفعوا عريضة إلى السلطان أحمد فؤاد يوم 28 ديسمبر 1921، وقع عليها الشيخ محمد أبوالفضل الجيزاوى شيخ الجامع الأزهر، والشيخ عبدالرحمن قراعة مفتى الديار المصرية، كما احتجت نقابة المحامين ورفعت مذكرة باحتجاجها إلى السلطان.
بالرغم من هذه الردود، فإن أحمد شفيق باشا يرى فى موسوعته «حوليات مصر السياسية- التمهيد2»: «الحركة التى قامت بها البلاد هذه المرة لم تكن من الشدة، بحيث تقاس بحركة سنة 1919، فالفرق بينهما كان عظيما»، ويرى أن «عوامل التفرقة التى عملت بين صفوف الأمة» كانت السبب، وانقسامها بين سعد زغلول وعدلى يكن باشا.