من الكتب التي تستحق الاطلاع كتاب يتناول كتاب "أشهر 50 خرافة فى علم النفس.. هدم الأفكار الخاطئة الشائعة حول سلوك الإنسان" تأليف سكوت ليلينفيلد وستيفن جاى لين وجون روشيو وبارى بايرستاين ترجمة محمد رمضان داود وإيمان أحمد عزب، ومن الأفكار التي ناقشها:
الخرافة رقم 1: معظم الناس لا يستخدمون إلا 10٪ فقط من قدرة المخ:
كلما خطونا، نحن المعنيين بدراسة المخ، خارج البرج العاجى لنلقى محاضرة عامة أو نجرى حديثًا إعلاميًّا، كان السؤال التالى أحد الأسئلة التى غالبًا ما توجه لنا: "هل صحيح أننا نستخدم 10٪ فقط من قدرة المخ؟" وتشير ملامح الإحباط التى ترتسم عادة على وجوه الناس حالما يسمعون هذه الإجابة: "معذرة، هذا غير صحيح".
لا شك أن هذه الخرافة منتشرة حتى فيما بين دارسى علم النفس والأشخاص الذين تلقوا تعليمًا جيدًا. ففى إحدى الدراسات طُرح سؤال عن النسبة التى يستخدمها معظم الأشخاص من قدرة المخ، وأجاب ثلث الطلاب الجامعيين الذين يدرسون علم النفس كمادة تخصص قائلين إن هذه النسبة تبلغ 10٪. وفى استقصاء أُجرى على عينة من خريجى الجامعات بالبرازيل أجاب ٥٩٪ ممن شاركوا فيه بأنهم يعتقدون أن الناس يستخدمون 10٪ فقط من قدرة المخ.
ومن المثير للدهشة أن هذا الاستقصاء نفسه قد أظهر أن 6٪ من المتخصصين فى علم الأعصاب قد أيدوا هذا الاعتقاد!
ولا شك أنه لا يمكن أن يرفض أى منا زيادة ضخمة فى قدرة المخ إذا أمكنه تحقيق ذلك. وليس غريبًا أن العاملين فى مجال التسويق — الذين يعتمد نجاحهم على الآمال العريضة التى يعلقها الأشخاص على الارتقاء بقدرتهم على تحسين أنفسهم — لا يتوانون عن الترويج لسلسلة لا تنتهى من الخطط والبرامج المريبة والمبنية على الخرافة القائلة إننا لا نستخدم سوى 10٪ من قدرة المخ.
تقوم وسائل الإعلام على الدوام بدور مهم فى تغذية هذه الخرافة الباعثة على التفاؤل طمعًا فى خلق قصص إخبارية مبهجة، فدائمًا تشير أجزاء كبيرة من المادة الإعلانية للمنتجات المرخصة إلى هذه الخرافة أملًا فى إشباع غرور العملاء المحتملين الذين يرون أنهم قفزوا فوق حدود قدراتهم العقلية. على سبيل المثال: أورد سكوت ويت فى كتابه الشهير "كيف تضاعف مستوى ذكائك" هذه الجملة: "إذا كنت لا تختلف عن معظم الناس، فأنت تستخدم 10٪ فقط من قدرة مخك".
وفى محاولة من إحدى شركات الطيران عام ١٩٩٩ لجذب العملاء المحتملين للسفر على رحلاتها، أعلنت هذه الشركة الآتي: "يقال إننا نستخدم 10٪ من قدرة المخ، ولكن إذا كنت تسافر على الخطوط الجوية لشركة (…) فأنت تستخدم جزءًا أكبر بكثير من هذا".
وتوصلت مجموعة من الخبراء شكَّلها مجلس الأبحاث القومى الأمريكى إلى أنه من أجل أن يتقدم الإنسان فى حياته لا بديل له عن العمل الجاد (للأسف) (بايرستاين، ١٩٩٩؛ دركمان وسويتس، ١٩٨٨). ولكن هذا الخبر، الذى لم يقابل بالترحاب، لم ينجح فى تغيير وجهة نظر ملايين الأشخاص الذين يلجأون إلى الاعتقاد بأن الطريق المختصر للوصول إلى أحلامهم التى لم يدركوها بعد هو التوصل إلى سر إطلاق مخزون طاقتهم العقلية الهائلة التى يدعى البعض أنها غير مستغلة (بايرستاين، ١٩٩٩). الترقى إلى المنصب الذى ترغبه، أو الحصول على تقدير عام ممتاز فى الامتحانات، أو تأليف رواية تدرج ضمن الكتب الأكثر مبيعًا، كلها أشياء فى متناول يديك؛ هكذا يقول بائعو العلاجات السحرية التى تنشط طاقة العقل.
وما يثير الشكوك أكثر هو مقترحات القائمين على الحركة الروحية المسماة "العصر الجديد" الذين يقولون إن بإمكانهم شحذ المهارات العقلية الخاصة التى يدعون أننا جميعًا نمتلكها عن طريق أدوات مبهمة لتنشيط المخ.
وقد زعم يورى جيلير (١٩٩٦) الذى يدعى أنه وسيط روحي، أننا فى الحقيقة نستخدم 10٪ فقط من طاقة المخ، هذا إن كنا حتى نصل إلى هذه النسبة. ويلمح مروجو هذا الاعتقاد من أمثال جيلير إلى أن القوى الروحية الخاصة تكمن فى التسعين بالمائة من طاقة المخ التى لم يتعلم أن يستغلها بعد عامة الناس الذين لا سبيل أمامهم إلا استغلال نسبة العشرة بالمائة العقيمة من طاقة أذهانهم.
ولكن ما الذى يدفع أى باحث معنى بدراسة المخ لأن يشك فى أن 90٪ من طاقته تبقى غير مستغلة؟ هناك العديد من الأسباب التى تدفعه إلى ذلك؛ أولها: أن المخ قد تألف عن طريق عملية الانتخاب الطبيعي. يحتاج النسيج المكون للمخ للكثير حتى ينمو ويعمل؛ ففى حين يتراوح وزن المخ من 2 إلى 3٪ من وزن الجسم، فإنه يستهلك أكثر من 20٪ من الأكسجين الذى نتنفسه. ومن غير المفهوم أن تكون عملية التطور قد سمحت بإهدار هذا الجزء من الموارد لبناء عضو لا يستفاد من معظم طاقته والمحافظة عليه. بالإضافة إلى ذلك، إذا كانت زيادة حجم المخ تسهم فى إيجاد المرونة التى تعزز أهم عمليتين فى ظاهرة الانتخاب الطبيعى وهما التكاثر والبقاء على قيد الحياة، فمن الصعب تصديق أن أى زيادة ولو طفيفة فى طاقة المعالجة لن تقتنصها فى الحال الأنظمة العاملة بالمخ من أجل زيادة فرص صاحبه فى النجاح فى الصراع المستمر من أجل الازدهار الاقتصادى والإنجاب.
وتعزز الأدلة التى توصل إليها علم الأعصاب الإكلينيكى وعلم النفس العصبى — وهما فرعان من العلوم يهدفان إلى فهم المؤثرات الناتجة عن تلف المخ ومحاولة تخفيفها — الشكوك فى نسبة العشرة بالمائة، فدائمًا تكون العواقب وخيمة حتى عند فقدان نسبة أقل بكثير من 90٪ من المخ بسبب الحوادث أو المرض. لننظر — على سبيل المثال — إلى الجدل الذى شاع بصورة كبيرة الذى صاحب حالة الغيبوبة التى انتابت تيرى تشيافو، وهى امرأة شابة من فلوريدا، ظلت تعانى حالة مستمرة من فقدان الوعى لمدة خمس عشرة سنة ثم توفيت فى النهاية . فقدت السيدة تشيافو 50٪ من النسيج المكون لمقدمة المخ، وهو الجزء العلوى من المخ المسئول عن الإدراك الواعي، نتيجة توقف وصول الأكسجين إليه بعد إصابتها بسكتة قلبية.
وفقًا لعلم دراسة المخ الحديث، فإن "العقل" يعنى وظائف المخ، وهذا معناه أن المرضى من أمثال السيدة تشيافو فقدوا إلى الأبد السعة اللازمة لاستيعاب الأفكار والمدركات والذكريات والمشاعر التى هى جوهر التكوين البشرى (بايرستاين، ١٩٨٧).
زعم البعض ظهور مؤشرات تدل على وجود نوع من الوعى لدى تشيافو، إلا أن الخبراء المحايدين لم يتوصلوا إلى أى أدلة تثبت أنها احتفظت بأى من وظائفها العقلية العليا. إذا كانت 90٪ من قدرة المخ غير ضرورية، لما كان ينبغى أن يكون الحال كذلك.
تكشف الأبحاث أيضًا عن أنه لا يمكن أن تتعرض أى مساحة بالمخ للتلف نتيجة السكتات الدماغية أو التعرض لصدمات على الرأس من دون أن يؤدى ذلك إلى عجز خطير فى وظائفه. وبالمثل، لم يكشف التحفيز الكهربائى لمناطق المخ خلال جراحات الأعصاب عن وجود أى "مناطق خاملة" به، فبعد تعريض المخ لتيارات كهربية ضعيفة لم يتضح وجود أى مناطق خالية من الإدراك أو الشعور أو الحركة (يستطيع جراحو الأعصاب القيام بهذه الخطوة المعقدة تحت تأثير مخدر موضعى لا يُفقد المرضى وعيهم، وذلك لعدم وجود مستقبلات للألم بأنسجة المخ).
وقد شهد القرن الماضى بدء استخدام التقنيات التى تكشف عن العمليات التى تتم داخل المخ، وتزداد هذه التقنيات تعقيدًا يومًا بعد الآخر. فباستخدام أساليب تصوير المخ، مثل رسم المخ وأجهزة التصوير المقطعى بانبعاث البوزيترون وأجهزة التصوير بالرنين المغناطيسى الوظيفي، استطاع الباحثون أن ينسبوا عددًا كبيرًا من الوظائف النفسية إلى مناطق محددة من المخ. فبإمكان الباحثين أن يزرعوا مجسات فى المخ تسجل البيانات لدى الحيوانات، وأحيانًا لدى الأشخاص الذين يتلقون علاجات لأمراض الأعصاب. ولكن لم يُظهر هذا الرسم التفصيلى للمخ وجود أى مناطق خاملة تنتظر أن تسند إليها مهام جديدة. بل حتى المهام البسيطة تحتاج بصورة عامة إلى تضافر جهود المناطق المختلفة المسئولة عن المعالجة، وتنتشر هذه المناطق فعليًّا فى المخ بأكمله.
وهناك اثنان من المبادئ الراسخة الأخرى فى علم الأعصاب يقفان حجر عثرة إضافيًّا فى طريق الخرافة القائلة إن الإنسان يستخدم 10٪ فقط من طاقة المخ؛ ينتهى الحال بالمناطق التى أدت الإصابات أو المرض إلى أن تصبح غير مستغلة إلى أحد الأمرين: إما تذبل، أو "تتحلل"، على حد تعبير علماء الأعصاب، أو تستولى عليها المناطق المجاورة التى تستطلع دائمًا أى مناطق غير مستغلة لكى تستعمرها من أجل أن تستغلها فى تحقيق أغراضها الخاصة. وفى الحالتين من غير المحتمل أن تبقى أنسجة المخ السليمة غير المستغلة قيد الاحتياط طويلًا.
وفى المجمل، تشير الأدلة إلى عدم وجود أى مناطق غير مستغلة بالمخ تنتظر تلقى المساعدة من القائمين على صناعة الارتقاء بالذات حتى تبدأ فى العمل. كيف بدأت إذن هذه الخرافة إذا كانت الأسانيد التى تؤيدها ضعيفة إلى هذا الحد؟ لم تتوصل محاولات تعقب جذور هذه الخرافة إلى أى أدلة إدانة، ولكنها كشفت عن بعض الأدلة التى قد تمنينا بحل هذا اللغز.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة