لم تكن حفلات سيدة الغناء العربى أم كلثوم مجرد كلمات وألحان وصوت عابر فقط وانما كانت طقس فنى واجتماعى وعاطفى يظل حديث الناس لأيام كثيرة منذ انتهاء الحفلة وانتظارا إلى حفلة أخرى فى نهاية أو بداية كل شهر.
ام كلثوم
فأم كلثوم- التى تمر 47 عاما على رحيلها هذا الشهر- ليست مجرد مطربة عادية وانما حالة أمة بأكملها فى الغناء وفى الرقى الفنى فكان لابد أن يتم تقديمها بالشكل اللائق بها على المسرح وعبر الإذاعة المصرية من خميس كل شهر. الذاكرة المصرية استعادت مع إذاعة الأغانى فى السنوات القليلة الماضية "طقس حفلات أم كلثوم " ومقدموها من كبار ومشاهير المذيعين وما كان يقومون به من وصف بديع ورائع يعكس جو الحفلة بالمتفرجين وبالفرقة الموسيقية وبالست نفسها وما ترتديه ولا مانع من مزج كل ذلك بزمن القومية العربية وبعض من سيرة الزعيم عبد الناصر خاصة فى حالة حضوره حفل الست وما أكثره من حضور.
مقدم حفل أم كلثوم لم يكن يخاطب الوجدان المصرى فقط بل كان عليه أن يتحمل مسئولية دغدغة المشاعر والوجدان العربى من المحيط إلى الخليج فزعامة ام كلثوم الفنية كانت تعادل زعامة ناصر السياسية. هيكل مع ناصر رادفه جيش من كبار المذيعين إلى جوار " الست"
حمدى قنديل
منهم كروان الإذاعة محمد فتحى وفهمى عمر وجلال معوض وفايق فهيم وحسنى الحديدى وعبد الوهاب يوسف وأحمد فراج وصلاح خليفة وصلاح مبروك وفاروق شوشة وحمدى قنديل وأحمد فراج وصالح مهران وهمت مصطفى
لكل واحد منهم حكاية مع الست تتعدى حدود التقديم والوصف إلى الطرائف والمواقف المحرجة فى بعض الأحيان. كان زمن كان صوت المذيع يعد بمثابة الكاميرا الصوتية التى تتلقاها الأذن فتسكن فى القلب وتتخيلها الأعين.
وكانت كوكب الشرق تقدر مذيعى حفلاتها، من لم تعتبره صديقًا، كان يحظى على الأقل بكلمات مداعبة قبل بداية الحفل، أو حتى بابتسامة من سيدة الغناء، فأصواتهم هى مواكب الشرف ومحمل القداسة للتجلى والابداع من الست، إلى القاصى والدانى من المحيط إلى الخليج.
يعبر المذيع على الكلمات والشاعر، واللحن والملحن سريعًا، ثم يخصص بقية الوقت للتأكيد على أن النغم الخالد هو صوت أم كلثوم باى كلام وبكل الكلام بحشوه وزخرفه الملون.
لم يخلو الأمر فى بعض الأحيان من الأخطاء الذى بلا أدنى شك يرافقه المغفرة والتسامح من الست لرسل صوتها.. فهمى عمر يقدمها فى احدى المرات فينسى وتتداخل الجمل والكلمات " أيها الستارة ترفع الان الجمهور عن أم كلثوم " فتنسى وتسامح لأنها معجبة بقوة بإيمان هذا المذيع الصعيدى القنائى... وحمدى قنديل ذلك الشاب التى اعجبت به فى تقديمه أول برنامج توك شو عربى فى التليفزيون العربى بعام 60 بعنوان" ما تقوله الصحافة" بصوته القوى الرخيم وبلطته وهيبته وشاربه الانيق الذى دخل إلى المسرح وشاهد الجمهور الضخم فنسى كل الكلام ولم يسعفه لسانه وعقله سوى بـ :"أيها السادة أقدم لكم أم كلثوم"...وكفى.
بعض الحفلات كانت تتشرف بحضور عبد الناصر منفردًا، أو مع ضيف من ضيوف مصر.
عندما تستعيد الإذاعة جو حفلات ام كلثوم بأصوات المقدمين الكبار فإنما هو استعادة لحالة فنية وتاريخية واجتماعية وتوثيق لمرحلة تاريخية بأحداثها ووقائعها.
ففى حفلة 30 أكتوبر 1954 نستمع إلى حسنى الحديدى فى التعليق الوصفى والإسهاب فى الوصف لكل شيء فى المكان والزمان. ومذيع حفلة 17 يناير 1957 فى سينما ريفولى صلاح زكى وكأنه يلقى خطبة وطنية.
وفى مايوم54 يبدأ جلال معوض فى تقديم حفلات الست، وكانت تقول ام كلثوم أن جلال معوض بأسلوبه وصوته المعبر كان يبدأ الغناء قبلها.
البداية الشهيرة للتقديم كانت مع محمد فتحى كروان الإذاعة الذى كان صديقًا يشاور ويقترح، وليس مجرد مذيع اقترب من السيدة فى أربعينيات القرن العشرين، ويبدو أن تسميته بكروان الإذاعة هى كوكب الشرق أم كلثوم، وهو واحد من اثنين افتتحا إرسال الإذاعة فى مايو 1934.
كان من أهمّ المقرّبين من أمّ كلثوم وحرص عام 1946 على أن يقدم لـ«أم كلثوم» مفاجأة، وهى ملحن يدخل قدراً من العصرية على أعمالها مع ثلاثى العمالقة: «زكريا أحمد، محمد القصبجى، ورياض السنباطي»، فطلب من الملحن محمود الشريف أن يلحن كلمات جديدة لبيرم التونسى، واجتمع مع أم كلثوم ومحمود الشريف ليقدما فى النهاية أغنية «شمس الأصيل».
جلال معوض من مواليد 1 يناير 1920. التحق بالإذاعة المصرية فى 18 نوفمبر 1950، وكان أحد مذيعها البارزين وارتبط صوته بكثير من المناسبات الوطنية والقومية، ارتبط اسمه أيضا بالبرنامج الشهير «أضواء المدينة». كان متزوجا من الفنانة الراحلة ليلى فوزى. توفى يوم 5 مارس 1997.
"يبدأ الغناء قبل أن أغنى» هكذا قالت أم كلثوم عن الإعلامى جلال معوض الذى يعد أبرز من قدم حفلاتها. ومن ذكرياته معها أنه اجتمع فى أحد الأيام مع صديقه سمير البندارى الصحفى بأخبار اليوم فى منزله يستمعون إلى قصيدتها الشهيرة «أراك عصى الدمع» وقاطعهما رنين الهاتف ليفاجأ أن «ثومة» كانت المتصلة. وعندما علمت أنه يستمع لقصيدتها أغلقت السماعة وجاءت مسرعة لتستمع معه لأغنيتها.
وفى الخمسينيات والستينيات سجل «معوض» بصوته كل البيانات التاريخية، وكان صاحب فكرة حفلات ليالى أضواء المدينة. وكان معروفاً عنه أنه واضح فى تعاملاته، متمسك بمبادئه بالرغم من قسوة الظروف، وهو من أفضل الأصوات الإذاعية على الإطلاق وإذا كنا نقول أن «أم كلثوم» و«عبدالحليم» أعظم الأصوات الغنائية فهو أعظم الأصوات الإذاعية.
صالح مهران صاحب الصوت المميز بالإذاعة المصرية، والذى شارك فى تغطية أحداث مهمة مرت على مصر منها حرب أكتوبر 1973، ارتبط صوت الإذاعى صالح مهران بصوت أم كلثوم. حيث بدأ «مهران» إذاعة حفلات كوكب الشرق فى السبعينات، وعرف بشدة حبه لصوت «الست»، وكان دائما يتحدث عنها باستماته فى جلساته مع الفنانين ووصل الحديث إلى أم كلثوم التى طلبت مقابلته بعدها وتوطدت العلاقة بينهما بعد ذلك. بدأ «مهران» إذاعة حفلات كوكب الشرق فى السبعينات، ومن شدة حبه أيضا لصوت «الست»، يذكر أنه تبارى مع المذيع السورى فؤاد شحادة فى كيل المدح لأم كلثوم وعبد الناصر وللعروبة والعرب فى زمن الوحدة بين البلدين. ومن أشهر الحفلات التى قدمها حفلة نادى بور توفيق الرياضى بالسويس عندما غنت " فات الميعاد". توفى بعد صراع مع المرض، فى 9 فبراير 2021.
نأتى إلى فهمى عمر، علاقته الوثيقة بأم كلثوم، يقول عنها :"كل مذيع من جيل الخمسينات وأنا منهم، كان يمنى نفسه بتقديم حفل من حفلات كوكب الشرق أم كلثوم وكان كل منا يتساءل بينه وبين نفسه، متى يحين الوقت الذى يخطره فيه كبير المذيعين بأن الأمنية على وشك أن تتحقق؟ لكن ما الذى سيقوله الواحد منا بعد تقديم الرواد أمثال محمد فتحى وعبد الوهاب يوسف وحافظ عبد الوهاب لهذه الحفلات، فهؤلاء كانوا يتصفون بالكلام الجميل والأسلوب المشوق.
لذلك عندما أبلغنى كبير المذيعين فى نهاية شهر فبراير 1954 بأننى سأكون مذيع حفل أم كلثوم ليلة الخميس الأول من شهر مارس؛ كانت سعادتى غامرة وفى الوقت ذاته كان خوفى وفزعى كبيرين وظللت قرابة الأسبوعين قبل الحفل وأنا أعيش الحلم الممزوج بالخوف.
الذى استقبلته أم كلثوم، فى كواليس حفل بمسرح الأزبكية بوسط القاهرة، حيث كانت كوكب الشرق تستعد لبدء الحفل وقالت: «أنا فاكره المذيع الصعيدي».
ومن المواقف الطريفة التى حدثت لفهمى عمر فى حفلات أم كلثوم، حسبما قال فى مذكراته: «عندما بدأت دقات المسرح التقليدية الثلاث التى تسبق رفع الستار انطلق صوتى، يقول :«الآن أيها الستارة ترفع السادة عن أم كلثوم وفرقتها الموسيقية لتغنى لنا»، وكانت هذه هفوة طريفة ضحك منها زملائى الذين استمعوا إلى وقالوا «بتحصل مع أحسن المذيعين».
الإعلامى أحمد فراج من الرعيل الثانى الإذاعى والرعيل الأول التليفزيونى واشتهر بالعطاء الإعلامى المميز على مدى مشواره الطويل فقد شارك فى نقل الإذاعات الخارجية ونقل حفلات كوكب الشرق أم كلثوم الشهرية.
ولد أحمد فراج فى 15 مايو عام 1932 فى قرية الحصص مركز شربين بمحافظة الدقهلية والتحق بكلية التجارة جامعة القاهرة وتخرج فيها عام 1953 ونظرًا لميوله السياسية التحق بمعهد العلوم السياسية بعد التخرج وعين فى الإذاعة عام 1954 وتدرب على يد كبير المذيعين حينذاك حسنى الحديدى.
شارك فى نقل الإذاعات الخارجية والحفلات الشهرية لسيدة الغناء العربى أم كلثوم وقدم برنامج المائدة المستديرة فى عام 1955 واستمر يقدمه فى الإذاعة أسبوعيًّا منذ عام 1955 إلى إبريل 1977 وقدمه فى الإذاعة والتليفزيون معًا فى مرحلة من المراحل وفى مرحلة أخرى على الهواء مباشرة فى الإذاعة والتليفزيون معًا وفى عام 1960 قدم للتليفزيون البرنامج الدينى نور على نور واستمر من عام 1960 إلى عام 1977 حيث بلغ عدد ما قدم منه نحو ألف حلقة
عاد مرة أخرى إلى التليفزيون ليقدم برنامجه نور على نور وظل يقدمه حتى وفاته يوم 14 مايو عام 2006 توفى الإعلامى القدير أحمد فراج. ومن اشهر الحفلات التى قدمها فراج لأم كلثوم قصيدة "قصة الأمس " أول مره فى مسرح حديقة الأزبكية ٦ فبراير عام ١٩٥٨ تقديم
وأغنية "لســـه فـــــاكر" بدار سينما أوبرا 7 يناير 1960.
الإذاعى المخضرم فايق فهيم ولد فى مدينة المنصورة عام 1941 وبعد رحلة دراسية تميزت بالتفوق والنبوغ التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة قسم اللغة الإنجليزية وتخرج وهو لم يتجاوز العشرين عاما. ثم تقدم لاختبارات الإذاعة المصرية وكان ترتيبه الأول بين المتقدمين، عمل مذيعا بالبرنامج العام كما قدم برامج (آراء حرة) و(أوائل الطلبة) الشهير الذى غطى من خلاله معظم محافظات مصر. بصحبة محمد فتحى ساهما فى تأسيس كلية الإعلام بجامعة الملك عبد العزيز بالرياض بالمملكة العربية السعودية،
انتمى فايق لجيل الزمن الجميل حيث عمل مع الراحلين جلال معوض وطاهر أبو زيد وأحمد فراج والسيدات صفية المهندس وسامية صادق وآمال فهمى وجمالات الزيادى، كان مذيعا لحفلات أم كلثوم حين كان صوت كوكب الشرق يصدح فى ليالى القاهرة الساحرة إلى جانب ألحان الموسيقار عبد الوهاب وأشعار نزار قبانى وكامل الشناوى.
من بين الحكايات الطريفة التى ذكرها فايق فيهى أن أم كلثوم كانت بتأكل فسيخ على الغداء يوم الحفل».. وتعتبر أغنية "يا مسهّرنى " أطولِ مقدّمة بصوت الإذاعى فايق فهيم.
فاروق شوشة قدم الست فى 7حفلة يناير عام 65 على مسرح الأزبكية. استطاع شوشة ابن قرية "الشعراء" الذى ولد في9 يناير عام 1936 بدمياط، أن يكتب اسمه بأحرف من نور فى سجل شعراء العربية، به اكتست القصيدة ثوبًا إبداعيًا لم ترتده من قبل، ذلك أن هذا الشاعر الدرعمى، الذى تخرج فى كلية دار العلوم فى خمسينيات القرن العشرين، استطاع أن يثور على القصيدة الكلاسيكية القديمة التى درسها، لينقلها إلى آفاق شعرية رحبة تتسم بالحداثة عبر شعر "التفعيلة".
وراح شوشة يتنقل بين أروقة الإذاعة مقدمًا للأخبار والفعاليات الكبرى، وفى مقدمتها حفلات سيدة الغناء العربى كوكب الشرق، وكانت أولى تلك الحفلات بتاريخ السابع من يناير عام 1965، حيث شدت كوكب الشرق من حديقة الأزبكية بثلاث وصلات غنائية، غنت خلالها أغنيات "للصبر حدود" و"أراك عصى الدمع"، "سيرة الحب"، كما قدم آخر حفلات الموسيقار فريد الأطرش فى مصر والتى شدا خلالها برائعته "عش أنت" من كلمات الأخطل الصغير بشارة الخورى.
حمدى قنديل من مواليد القاهرة 1936 31 أكتوبر 2018 كان صحفيا، مذيعا، محاورا وناشطا مصرياً بارزا. بدأ عمله كصحافى فى خمسينيات القرن الماضى عندما كتب فى مجلة "آخر ساعة" بدعوة من الصحفى المخضرم مصطفى أمين. فى عام 1961، بدأ عمله كمذيع فى التلفزيون المصرى من خلال برنامج "أقوال الصحف" حتى عام 1969 عندما عُيّن مديراً لاتحاد الإذاعات العربية. عمل فى وقت لاحق مع اليونسكو من عام 1974 إلى عام 1986، قنديل قدم لفترة قصيرة برنامج "مع حمدى قنديل" على شبكة راديو وتلفزيون العرب.
عاد إلى التلفزيون المصرى فى عام 1998، مقدما البرنامج الخاص بالشؤون الجارية والنقد الصحفى "رئيس التحرير". أصبح البرنامج واحدا من البرامج الأكثر شعبية واحتراما فى مصر. بعد مشكلة مع رقابة الدولة، نقل قنديل البرنامج إلى تلفزيون دبى فى عام 2004 تحت اسم "قلم رصاص". تلقى البرنامج الجديد مشاهدات عالية فى جميع أنحاء العالم العربى. المرة الوحيدة التى قدم فيها أم كلثوم كما قال لى فى حوار صحفى عندما اعجبت به فطلبت منه تقديم حفلاتها فدخل الذى دخل إلى المسرح وشاهد الجمهور الضخم فنسى كل الكلام ولم يسعفه لسانه وعقله سوى بـ :"أيها السادة أقدم لكم أم كلثوم"...وكفى. وعند مغادرته السريعة قابلته ام كلثوم غاضبة وقالت له " هما دول الكلمتين اللى ربنا فتح بيهم عليك عشان تقدمني"...!! توفى حمدى قنديل عن عمر 82 عامًا بعد صراع مع المرض فى 31 أكتوبر 2018.