قال الدكتور شوقي علام ،مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: إنَّ الغاية من الشريعة الإسلامية أن تجلب النَّفع والمصالح للناس وتدفع عنهم المفاسد حتى تصلح حياتهم في العاجل والآجل كما قال الإمام الشاطبي، وهذا نتيجة لمقدِّمات وجهد علمي كبير من الإمام الشاطبي الذي قال إنه استقرأ تكاليف الشريعة، وبحث في تعليل الأحكام ووضع علامات استفهام كبيرة وكثيرة، فخلص إلى أن الأحكام معللة بصورة كلية ومعللة في جزئياتها في الأعمِّ الأغلب وإن كانت في بعض الجزئيات من الأمور التعبدية.
وأضاف أنَّ الشريعة الإسلامية الخطاب فيها في أصله على العموم وأنه يعمُّ كلَّ المكلفين أيًّا كان مواقعهم أو أزمانهم ولا يمكن قصر الخطاب على فئة دون فئة أو مكان دون مكان بغير دليل شرعي، ولذلك فإن الإمام ابن العربي وهو من فقهاء المالكية عندما يفسِّر قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وضع لنا قاعدة عند تفسير هذه الآية وانتهى إلى أن الخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفظًا، إلا أنه لوليٍّ الأمر معنى ، فهو يسري وإن صدر باللفظ لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه يسري في كلِّ أجزاء الزمان لكلِّ وليٍّ أمر يَلي أمور المسلمين".
جاء ذلك في المحاضرة التي ألقاها المفتي خلال الدورة التدريبية المشتركة لأئمة مصر وفلسطين بأكاديمية الأوقاف الدولية، والتي كانت تحت عنوان: "الفتوى في زمن النوازل".
وأوضح أنَّ الشريعة الإسلامية صالحة لكلِّ زمان ومكان كما أنها تراعي ما يطرأ من ظروف الناس والمستجدِّات التي قد تتغيَّر وَفقًا لها الفتوى والأحكام سواء على مستوى الدولة أو الفرد أو المجموع.
ولفت إلى أن الفقهاء قد أدركوا ذلك وتمثَّل في مجال العقود وبحثها أئمة المالكية كثيرًا، وأنه نظرًا للظرف الطارئ قد تعدل مسارات العقد، وظهر ذلك في فكرة الجائحة التي تصيب الزرع المتعاقد عليه، فيعدل العقد عند المالكية وغيرهم بما يناسب هذه الحالة، ولكن بعد أن تعود الظروف إلى وضعها الطبيعي تعود الأحكام إلى مسارها الطبيعي، فهي قرِّرت لدفع الحاجة ورفعها ثم بعد أن تزول ترجع الأمور إلى طبيعتها.
وأشار المفتي إلى أنه يجب علينا أن نحافظ على خطابنا قائمًا على الفهم الصحيح للنصوص الشرعية، لأن النصوص إذا وُضعت في غير مواضعها وخرجنا بالخاص من خصوصه إلى العموم لأدى ذلك إلى الإفساد والإساءة إلى الصورة الحسنة التي جاءت بها شريعة الإسلام.
ولفت إلى أنَّ العلماء وضعوا قواعد، من بينها أن: "الضرورة تقدَّر بقدرها"، وقالوا: "الضرر يُزال"، واستقَوا هذه القواعد من القرآن الكريم كقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى في آيات الصوم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ هذا الدِّينَ يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبهُ"، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، ولَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"، وكانت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: "ما خُيِّرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلَّمَ بيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُما أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ، إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا، فإنْ كانَ إثْمًا، كانَ أَبْعَدَ النَّاسِ منه" وانطلاقًا من هذا التوجيه النبوي قرَّر العلماء قاعدة: "المشقة تجلب التيسير".
وأشار إلى أن الحفاظ على النفس الإنسانية مقصد هام من مقاصد الشريعة الإسلامية، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وأضاف أنه إذا جاءتنا ضرورة ما ولم نستطع أن نعالج هذا الظرف الطارئ إلا عن طريق شيء في أصله محرم كالتداوي بمشتقات الخنزير أو بعض أعضائه، ارتفع التحريم وجاءت الإباحة للضرورة التي تقدَّر بقدرها.
وأوضح مفتي الجمهورية أن وقائع الحياة متسارعة ومتشابكة وغير متناهية، ونصوص الشريعة جاءت لتضع لكل واقعة حكمها لذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علَّم سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه الاجتهاد لاستخراج الأحكام فيما لم يجدَّ فيه نصٌّ في الكتاب أو السنة ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم له حين أرسلَه إلى اليمنِ: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو؟ فضرب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صدره وقال: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسول الله".
وأردف أن العلماء حين تعاملوا مع المخدرات في عصرنا الحاضر حيث يصنع بعضها من مواد كيميائية تشكِّل خطرًا على الشباب وعلى المجتمع قدَّموا الحكم بمنعها وتحريمها وتجريمها انطلاقًا من نصوص الشريعة الحنيفة.
وأوضح أن الجماعات المتطرفة قدمت أفهامًا منفصلة عن الأدلة الشرعية، منفصلين بذلك عن نهج علماء الأمة الذين قرروا أن: "المصلحة حيث ما وجدت فثَمَّ شرع الله".
واختتم مؤكدًا: نحن متصلون بالأصل ومنفتحون على العصر، ولكنَّ هذا الانفتاح لا يعني إذابة الثوابت، بل علاج الوقائع في إطار المتغيِّر والقابل للاجتهاد، ولدينا مرونة في الأدلة ولكنَّها تحتاج إلى عقل واعٍ ورشيد مدرك للواقع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة