لا يمكن الجزم بما ستؤول إليه الأمور فى أوكرانيا. حتى اللحظة يبدو المشهد سائلا، ولا يخلو الأمر من ارتجال تفرضه الظروف والتطورات. الصورة الأقرب إلى الواقع أننا إزاء لعبة "عض أصابع"، يُراهن كل طرف فيها على احتمال الآخر، والمؤسف أن الرئيس الأوكرانى فلاديمير زيلينسكى ونظامه ليسوا طرفا فى تلك اللعبة، ولا يُحدد ثباتهم وحفاظهم على مراكزهم فى العاصمة كييف أى شىء فى نتائجها النهائية وما قد تُسفر عنه أولى جولات روسيا فى معركتها الطويلة المقبلة مع "الناتو".
الصدام الأخير كان مُتوقعا، وكان سيحدث فى كل الأحوال. صحيح أن الفصل القائم جرت وقائعه على الأراضى الأوكرانية، لكن بالنظر إلى فلسفة حلف الأطلسى "ناتو" وسياساته لأكثر من سبعة عقود على التأسيس يُمكن القول إن المواجهة جاءت فى سياق طبيعى غير صادم. لو تأخرت جبهة أوكرانيا قليلا كان يُمكن أن يحدث ذلك فى مولدوفا أو فنلندا أو جورجيا أو غيرها. يحاول الناتو تجديد دمائه والبحث عن صيغة جديدة تضمن له العيش، بعدما استنفد أغراض تأسيسه ولم تبق له أوراق ضامنة للحياة أو قادرة على تغذية وجوده بمبررات منطقية وعملية. تأسس الحلف ربيع 1949 بعضوية عشر دول أوروبية إلى جانب الولايات المتحدة وكندا. كان مفهوما وقتها حدود المهام الموكلة إليه والدور الذى يتعين عليه أن يلعبه. وطوال ثلاث وثلاثين سنة تالية لم يُضف إلى أعضائه سوى أربع دول. هكذا سقط الاتحاد السوفيتى وكان الناتو ست عشرة دولة، ومنطقيا لم تعد مبررات الوجود التى تأسس وفقا لها قائمة كما كانت الحال عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. لكن على عكس تلك النظرة توسع الحلف منذ 1999 حتى قبل عامين، ليضم خلال إحدى عشرة سنة فقط أربع عشرة دولة جديدة. احتاج الناتو نصف القرن ليبنى نصف قوته العددية، وأضاف النصف الآخر فى عقد واحد. تبدو المفارقة موجبة للتوقف: توسع الحزب فى زمن السلم والحدود الواضحة أكثر مما توسَّع طوال الحرب الباردة وخلال زمن النزاع على الحدود والنفوذ!
الآن، يبدو "بوتين" مُتشددا فى شروطه، ويبدو "الناتو" مُوغلا فى التضييق عليه إلى حد الخنق. أخطر ما يُمكن أن يحدث هو دفع روسيا إلى الركن الضيق، وإغلاق المنافذ الممكنة لرؤية النور. إذا تقلصت الخيارات أو زادت كُلفتها يمكن أن يأخذ الصراع منحى يتجاوز كل خيال. روسيا تستشعر أنها أُهينت وجُرحت كرامتها. لهذا ترى أن امتداد الإهانة غير مقبول، ورسم معالم الطريق دون استشارتها لن يكون مقبولا أيضا. والضغط على الجرح القديم لن يُخرج إلا صديدا ودمًا. كما أن السير المحموم على طريقة "المنوَّم مغناطيسيًّا" باتجاه غاية مُبكرة أو حلم شخصى بانتهاء "الحقبة البوتينية" قد يكون تصوُّرًا رومانسيا عاريا من حسابات الجدوى وتقديرات الفواتير الممكنة. حتى لو رأى البعض أن حرب أوكرانيا تحمل إشارات إلى شيخوخة نظام موسكو، فإن قدرًا من التعقُّل يحتمل القول إن الرجل لن يُوقِّع بالانصراف دون جَلَبة، ومهما كانت الفاتورة قاسية على الدب العجوز، فربما تكون قسوتها أكبر على الآخرين. تجاوزنا الأسباب والحلول البسيطة. لن تخرج أوكرانيا من الحرب كما دخلت، ولا روسيا، ولا الناتو نفسه. السؤال الآن عن أقل الخسائر والأضرار، وعن تلطيف السخونة إلى درجة يُمكن احتمالها، ولا تهدد بانفجار طارئ قد لا تسهل إدارته أو احتواؤه.
النجاح والإخفاق من منظور غربى
يُغرق البعض فى التبسيط، بالقول إن روسيا غير ناجحة فى معركتها إلى الآن، وأن الغرب نجح فى استدراجها إلى المُستنقع وأطال أمد المواجهة من أجل استنزافها، واستهلاك طاقات أوكرانيا أيضا. وقد يُطور آخرون هذا التصور إلى مستويات أكثر تفاؤلا بأن "الإخفاق المُتخيَّل" يُمكن أن يُغرى دولا من الفيدرالية الروسية بالبحث عن الانفصال، ما قد يكون مُقدمة لتصدع خريطة روسيا الاتحادية وبدء مسيرة الفشل فى الحفاظ على تلك الجغرافيا العملاقة. هذا الفريق ومن يرون أن روسيا أخفقت فى الإدارة العسكرية، وأخفقت كذلك فى المواجهة السياسة والدبلوماسية السابقة عليها، وأن أقصى ما يمكنها الحلم به الآن ينحصر فى صيغة تُرشِّد النزيف وتحفظ ماء الوجه، ينطلقون من تصوُّر رسمه وروَّجه الغرب عن الحالة الأوكرانية، وليس تصوُّر روسيا أو خطابها، ولا بالطبع خطّتها وأهدافها المُضمرة التى يصعب الجزم بها حتى اللحظة.
هنا يكون التوقف أمام المصطلحات مفيدًا. قال الغرب إنها حرب تستهدف روسيا من خلالها ابتلاع أوكرانيا، بينما قالت موسكو إنها "عملية عسكرية" وأعلنت أهدافا ليس منها ضم الجغرافيا الأوكرانية إلى حدودها. الأمر ليس مجرد مناورة أو لعب بالتعبيرات، وإنما تحمل المسافة بين المفهومين قدرا عريضا من اختلاف الرؤى وتضارب المعلومات وتنوع الأهداف والغايات. السردية الغربية سعت إلى تصوير المشهد باعتباره "مصارعة موت" لا يمكن أن يخرج طرفاها أحياء، بينما رواية روسيا تراها مباراة خشنة لا تستهدف القتل قدر سعيها إلى إعادة رسم الملعب وإرساء أعراف جديدة للعب. من هذا المُنطلق يصعب الحديث عن هزيمة روسيا، أو إخفاقها، أو تحجيم أقصى مكاسبها بحفظ الكرامة، وقد لا يكون حديثا منطقيا حال وضعه على ميزان موسكو، ووفق ما أعلنته وما يُحتمل أنها تُضمره عن العملية وبواعثها وغايتها وحدود الرضا المقبولة من نتائجها العديدة المحتملة.
تخوض روسيا صراعا مع الغرب، بينما يحاول الغرب نفسه تأطير الأمر بحدود أوكرانيا، كما قال وزير الخارجية الفرنسى لو دريان: "نحن والناتو والولايات المتحدة لسنا فى حرب مع روسيا، بل هى فى حرب مع أوكرانيا". الحقيقة أن أوكرانيا موضوع للنزاع وليست طرفا أصيلا فيه، صحيح أن المواجهة تجرى معها وعلى أرضها، لكنها وُضعت فى الصدارة نتيجة فروق التوقيت وإيقاع المعادلات الجيوسياسية وطموحات نظام كييف ووتيرة تلقيه لرسائل "الناتو" وفهمها والتعاطى معها. كان يُمكن أن تتغير تركيبة المُعادلة لتحل جورجيا أو مولدوفا أو فنلندا طرفا بديلا، وملعبا للمواجهة الروسية "الأورو-أطلسية" الجارية الآن. لذا فإن من التبسيط القول إن الحرب الجارية تنحصر فى الجغرافيا الأوكرانية، ما يعنى أنها قد تنتهى بابتلاعها أو طرد القوات الروسية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق فى الحالين، ما لم يدخل الغرب على الخط، ويتحمل نصيبه من كُلفة الصدام، ومن الترتيبات والأعباء المطلوبة بعد تصفيته. ربما تكون أوكرانيا ظُلمت بين الطرفين، أو ظلمت نفسها، أو ظلمتها طبقتها السياسية، لكن الخلاصة أنها مادة للصراع، وليست مصارعًا أصيلا أو خصما مُباشرًا لموسكو بالمعنى الاستراتيجى العميق.
مقامرة المرتزقة ومخاوف الأفغنة
دفع الغرب باتجاه إلحاق متطوعين للحرب إلى جانب نظام كييف، ونشط وسطاء المرتزقة والميليشيات فى الملف. بحسب أنباء متداولة بدأ بحث محموم عن مرتزقة وارتقى السعر لأكثر من 2000 دولار مع مزايا إضافية؛ فردت روسيا بالطريقة نفسها، إذ أقر "بوتين" إرسال متطوعين بينهم نحو 16 ألفا من الشرق الأوسط، وفق تصريحات لمسؤولين روس.
هذا السيناريو حال اكتماله بتلك الصورة ينذر بأوضاع بالغة السوء، قد لا تتوقف على إعادة إنتاج السيناريو الأفغانى فى أوكرانيا، إذ ربما تمتد إلى دول أوروبية وأعضاء بالناتو، لا سيما أن حزام التماس بين الحلف وأوكرانيا يضم دولا هشّة تُقيّدها الجغرافيا ومحدودية القدرات اللوجستية، ويسهل اختراق بنيتها أو اتخاذها مُنطلقًا للتوغل باتجاه العمق الأوروبى. هكذا لا يمكن النظر إلى اللعبة باعتبارها محدودة بتصفية الحسابات ومساعى حسم المواجهة الأوكرانية، إذ يُمكن فى لحظة، وحسب الضغوط وتوازنات القوى، أن يتطور الأمر إلى عبور منظم فى اتجاه الأعماق، فضلا عن قابلية "كتائب العصابات" للشراء والتوجيه. حتى لو سارت الأمور كما يُخطط لها، فإن عبء التخلص من هؤلاء المقاتلين بعد إنهاء الحرب أو الوصول إلى تسوية، لا يمكن التنبؤ به أو زعم القدرة عليه. باختصار يسهل أن تنفلت الخيوط من أيدى اللاعبين، ليس بـ"أفغنة أوكرانيا" فقط، وإنما بخلق حاضنة ومنصة قادرة على إيلام أوروبا فى عقر دارها!
فى النقطة السابقة سقطة أخلاقية. يبدو غريبا أن تتراجع أوروبا عن قيمها المُعلنة لتلجأ إلى ورقة الميليشيات. يتضاعف الأمر بالنظر إلى إدارة المواجهة إعلاميا على أرضية أخلاقية، مع خطاب مصنوع بعناية لاستمالة المتلقين عاطفيا. هنا يسقط الغرب فى التناقض نفسه: يدفع باتجاه توصيف الحالة الروسية الأوكرانية باعتبارها غزوا واحتلالا عسكريا، بينما عاش حالات شبيهة وأسبغ عليها أوصافا مغايرة. نظريا لا يحتاج الأمر جهدًا مضنيا للحسم، يمكن القول إن العملية الروسية فى أوكرانيا اعتداء ينطوى على انتهاك للقانون الدولى، بالضبط كما كانت خطوة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين ومنهم أوكرانيا نفسها فى العراق. وقتها جرى تبرير الأمر بالسياسة والأمن، وهو ما يمكن أن يكون مدخلا لقراءة الحالة الروسية الآن. يبدو أن موسكو تخسر معركة الدعاية فى مواجهة آلة إعلامية احترافية لا تتوقف عن تلميع السردية الغربية و"أسطرة" الحكم كييف، لكن منطق السياسة يتصل بتوازن القوى وقدرة كل طرف على فرض أجندته. حال خسرت روسيا فإنها ستكون شيطان العالم كما جرى مع ألمانيا النازية، لكن لو نجحت فى إدارة مناورة شاملة لتمرير أجندتها وتطبيع الأوضاع الجيوسياسية التى فرضتها بالقوة، سيظل بإمكان الخصوم القدح أخلاقيا فيما مارسته، لكنها ستكون الرابح سياسيا، وهو أمر لا تؤثر فيه الأوصاف وخطابات الوصم!
وهم الحسم بالعقوبات
على هامش القمة الأوروبية، قال الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إن أوروبا تستعد للاستغناء عن النفط والغاز الروسيين بحلول العام 2027، على أن تسير باتجاه الطاقة النظيفة. حتى الآن ما تزال شرايين القارة معبّأة بالغاز الروسى، ومن غير المُرجح أن يتحقق السيناريو المعلن لاعتبارات عدّة، أولها أن برمجة سياق واسع من الطاقة المُتجددة بما يكفى أوروبا ليس أمرا هينا، ولا يمكن إنجازه خلال خمس سنوات، كما أن كُلفة المصادر البديلة من الوقود التقليدى باهظة ولا تحتملها أسواق القارة أو مواطنوها، فضلا عن تعقيدات لوجستية تقوّض فرص البحث عن بدائل أصلا، كما فى حالة ألمانيا التى لا تمتلك بنية صالحة لاستقبال ناقلات الغاز المُسال، هذا إذا نجحت فى تدبيرها أصلا وسط غابة من العقود طويلة الأجل المسيطرة على كثير من التدفقات المتاحة كبدائل مُحتملة.
النظر إلى العقوبات الغربية باعتبارها أداة ناجعة يبدو أمرا محل شك. لا خلاف على أن سلسلة الإجراءات المتخذة تمثل ضغطا قاسيا على الاقتصاد، لكن حدود المناورة تبدو مفتوحة نوعا ما. هناك ثغرات ما تزال تسمح بانتفاع روسيا من عوائد الطاقة الموجهة إلى أوروبا، فضلا عن الأسواق القائمة فى الغرب وغير ذلك من بدائل مُحتملة، والأهم قدرات موسكو الداخلية وما تملكه من أدوات لإدارة السوق بقدر جيد من الاكتفاء محليا. بحسب دراسة لوكالة ناسا بالعام 2018 تحتل روسيا المركز الرابع بين الدول صاحبة المساحات الزراعية الأكبر بنحو 155.8 مليون هيكتار تمثل قرابة 10% من إجمالى الرقعة المزروعة عالميا. كما أنها الأولى فى الموارد الطبيعية بقيمة صافية تتجاوز 75 تريليون دولار، ولديها وفرة فى النفط والغاز والفحم، مع قدرات ضخمة فى الذهب والألماس والخشب والمعادن النادرة، وثروة حيوانية تجعلها قوة فاعلة فى صادرات اللحوم والألبان، وموارد مائية هائلة، وقاعدة علمية وصناعية قوية ومستقرة. باختصار يُمكن لروسيا البقاء على قيد الحياة بمعزل عن العالم، صحيح أن هذا قد يُبطئ معدلات النمو أو يُقوّض جانبا منها، لكنه لن يقود بالتأكيد إلى الموات أو الجمود الكامل.
بعيدا من ورقة الطاقة، لا تبدو خسائر أوروبا من العقوبات أقل من الخسائر الروسية نفسها، ليس فقط بالنظر إلى تعطل سلاسل الإمداد وتضرر التجارة المشتركة وجفاف حصة كبيرة من عوائد الشركات الأوروبية، ولكن الخسارة المعنوية طويلة الأمد أشد من ذلك. خلال المواجهة الأخيرة تضررت مصداقية الأسواق الغربية كملاذات مستقرة وآمنة ومفتوحة للعمل على قاعدة من القانون والعدالة. شهدت العقوبات إجراءات جائرة بحق أفراد، وقرارات طالت أصولا وودائع طالما ظن المستثمرون فيها أنها بمأمن من تقلبات السياسة. قد يكون من المبالغة القول إن قيم السوق الحرّة وقدسية الملكية الفردية وأمان الاستثمار والتجارة من ألاعيب السياسة وخصومات الدول قد سقطت تماما، لكنها تضررت بالتأكيد، وما من شك فى أن كثيرين من المستثمرين، كيانات وأفرادا، لن يوقعوا على شيكات بيضاء لصالح الغرب مرة أخرى، قد لا يخرجون من الأسواق الأوروبية تماما، لكنهم سيتحوّطون ويتخذون من الإجراءات ما يكفل لهم قدرا أقل من المخاطرة والضرر، وفرصا أوثق للأمان. ربما يترك هذا أثرا بعيد المدى على النقد فى أوروبا والولايات المتحدة، وعلى استثمارات السندات، وعلى الودائع السيادية ومُدخرات الأفراد أيضا.
حزام العزل والمياه الدافئة
ربما يكون السؤال الأهم الآن: ماذا تريد روسيا من معركة أوكرانيا؟ بحسب الأهداف المُعلنة تحاول تأمين جبهتها الغربية حتى لا يُحكم "الناتو" الطوق على كامل القوس المواجه لأوروبا، وهو الهدف الاستراتيجى الذى تفتته فى قائمتها إلى مطالب مثل نزع السلاح والحياد وإسقاط القوميين والاعتراف بتبعية القرم واستقلال جمهوريتى الدونباس. مقابل ذلك ربما تكون هناك أهدافا مضمرة ترتبط بجغرافيا المواجهة الآن وفى المدى المرتقب. لن تقبل روسيا الخسارة فى أوكرانيا لأنها تفتح الباب لاحتمالات قاسية، قد تحرمها من القرم ومينائها الاستراتيجى فى سيفاستوبول، أو تقوّض هيمنتها على بحر آزوف وحضورها فى البحر الأسود، فضلا عن خسارة حزام "دونباس" باعتباره الحائط الأخير الذى لا يمكن قبول التراجع بعده فى أية مُعادلة أمنية روسية قبالة الناتو. باختصار تعنى الخسارة احتمال الحرمان من المياه الدافئة وفرصة الوصول إلى البحر المتوسط، وهو أمر لن تقبله روسيا مهما كانت الكُلفة، حتى لو اضطرت إلى التصعيد وتوسعة مدى المواجهة إلى جرب شاملة، والغرب يعرف هذا تماما ولن يذهب إليه بالتأكيد!
الرواية الغربية عن ابتلاع روسيا لأوكرانيا صرفت الأنظار عن الاحتمالات الأخرى وأهداف روسيا الحقيقية. يبدو أن الدائرة "الأورو-أطلسية" سقطت فى مستنقع التضليل الذى حاولت أن توظفه فى المواجهة. لن تتخلى روسيا عن أمنها القومى ومصالحها الاستراتيجية مهما كلفتها المواجهة، لكنها أيضا لا تريد ضم الأراضى الأوكرانية، إذ لا يشكل هذا تغييرا فى المعادلة التى دخلت الصراع بناء عليها، فهى لا تريد أن تكون فى مواجهة مباشرة مع الناتو من تلك الجبهة، وتعبئتها لكامل الجغرافيا الأوكرانية يضعها على التماس مع رومانيا وسلوفاكيا وبولندا والمجر. المؤكد أن لدى "بوتين" استراتيجية بديلة، وبالنظر إلى محاور العمليات يبدو أن القوات الروسية تحاول خلخلة الجغرافيا الأوكرانية من مفصلى الشرق والجنوب، مع عزل العاصمة عن بقية الجسد. يضمن إسقاط كييف أو خنقها أن يتعطل النظام ثم يسقط من تلقاء نفسه، أما بناء الحزام الجديد شرقا وجنوبا: من خاركيف إلى دنيبروبتروفيسك، وميكولاييف، وأوديسا، ومن ورائها لوجانسك ودونيتسك، وزابوريجيا وخيرسون والقرم، تضمن حزاما عريضا يؤمّن الحدود الروسية ويوفر لها إطلالة عريضة على البحر الأسود، مع تطويق لـ"مولدوفا" يعطل التحاقها بالناتو، وتماس ضيق مع رومانيا يسمح بنقطة ارتكاز للقدرات الجوية والدفاعية وأسلحة الردع دون توسيع لجبهة المواجهة إلى حيز لا تسهل إدارته أو السيطرة على أخطائه العارضة. الأهم فى ذلك أن هذا الحزام يجعل أوكرانيا بلدا حبيسا تطوقه روسيا من 3 جهات كاملة، وكما هي الحال الآن فلن تكون بولندا وسلوفاكيا والمجر ظهيرا قويا أو نقاط دعم ومساندة استراتيجية.
بعيدا من هذا التصور، يبدو أن روسيا لا تُدير المواجهة بالقوة فقط، وإنما تمسك بأوراق ناعمة إضافية. حتى الآن لديها ورقة قاسية حال أوقفت تدفقات الطاقة إلى أوروبا، فضلا عن الضغط بورقة اللاجئين وما تمثله من ضغوط. يقول محللون إن نحو مليونين ونصف المليون عبروا الحدود الأوكرانية فى نقاط التماس الأوروبية. يمثل الأمر ضاغطا مزعجا حتى اللحظة، بينما يُمكن تطويره حال كثفت روسيا من هجماتها وحوّلت الآلة العسكرية إلى أداة طرد. يُمكن تصور حجم الفوضى والارتباك والخسائر الاقتصادية لو ضغطت موسكو لرفع الأعداد إلى عشرة أو خمسة عشر مليونا! ومع تعطل صادرات الغذاء الأوكرانية، وإيقاف روسيا صادراتها منها، قد تواجه أوروبا أزمة حقيقية فى تدبير أعباء استضافة كل هؤلاء اللاجئين، ويمكن أن يصبح الأمر كارثيا لو توقفت إمدادات الطاقة بالتزامن مع ذلك. يبدو أن الغرب استنفد أو أوشك على استنفاد فرص الضغط على "بوتين"، بينما ما يزال الأخير يقبض على أوراق بالغة القسوة بما يكفى لتصعيد الموقف وإشراك الناتو فى خسائره، ربما بدرجة أكبر مما تكبده روسيا. المؤكد أن الغرب يعرف ذلك جيدا، لهذا شدّد مرارا على أنه لا يريد المواجهة، ولا يسعى للحرب، ولن يتدخل عسكريا. اللجوء إلى ورقة الميليشيات لن يختلف كثيرا عن استخدام القوة النظامية، وبينما يتصور الغرب أن إطالة أمد الصراع يستنزف روسيا، يبدو أن الأخيرة تتلكأ لاستهلاك قدرات الغرب حتى تصبح خياراته محدودة وقتما يصبح طرفا مباشرا فى المواجهة. اللحظة المفصلية عندما تسقط كييف، لأنها إما تكون إعلانا بفشل الناتو، أو بداية لتصعيد لن يكون الطرف الأقوى فيه ما لم يتورط عسكريا.
الناتو وقبلة الحياة المرة
ظاهريا يبدو أن روسيا دفعت فى اتجاه إحياء حلف الأطلسى "الناتو" بعد موات نسبى هيمن عليه خلال السنوات الأخيرة. بحسب بلومبرج "تؤكد العقوبات وحدة الولايات المتحدة وحلفائها فى مواجهة بوتين". ويرى آخرون أن موسكو أهدت الحلف ما لم يكن يحلم به من طاقة أنعشت هياكله المتكلسة وساعدت على تنشيطه. هذا التصور قد لا يكون خاطئا تماما. كان باديا أن الحلف يعانى أزمة هوية عميقة، بين ميثاق تأسيسه وأهدافه المعلنة، وتمدّده الذى لا يُعلم مداه، وتوظيفه أغلب الوقت فى خدمة الرؤية الأمريكية، إلى حد إبداء أطراف أوروبية أساسية ضيقها من الأمر علنا أو ضمنا، ودعوة فرنسا إلى العمل من أجل تشكيل قوة أوروبية موحدة، رأى البعض أنها قد تكون بديلا مستقبليا عن "الناتو". أنعشت روسيا الحلف لكنها أحرجته عمليا، الأمر أشبه بإيقاظ العملاق النائم الذى يخشاه الناس على السمع، لكنه عندما استيقظ بات أضعف وأشد ضآلة مما كان يتصوره الآخرون، فضلا عن أنه بدا سلبيا وعاجزا، ورآه البعض خائنا لحلفائه ومن راهنوا عليه. منحته موسكو قبلة الحياة بالفعل، لكنها أبرزت تناقضاته بتلك القبلة، وربما يقلص هذا من جاذبيته وإغرائه، أو يزيد الشقاق والتعارض بين أركانه بما يُخلخل ركائزه المستقرة منذ منتصف القرن الماضى، ويُغذى حالة من التمرّد الناعم أو مفارقة الإجماع/ الرؤية الأمريكية، لن تلبث أن تستشرى بين الآخرين داخل البيت الأطلسى.
السؤال الدائم عمليا: لماذا يواصل الحلف بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى؟ فى المقابل يبدو أن لدى "واشنطن" رغبة لإعادة صياغة هويته، متحولا من تحالف دفاعى إلى أداة عسكرية مُباشرة يُمكن أن تتقدم فى الجغرافيا بدلا من تأمينها. دخلت الولايات المتحدة العراق دون قرار من "الناتو" لكنها أرغمت أغلب دوله على المشاركة، وجرّبت تعديل شخصيته فى ليبيا بعد 2011. يبدو كما لو أنها تحاول هندسته بما يوافق رؤاها الاستراتيجية، حتى لا تحتاج مستقبلا إلى اتخاذ خطوات خارج الحلف أو تكبّد الكُلفة بمفردها بينما يتوفر لديها ظهير أوروبى ثرى وفى حاجة لمظلة الحماية الأمريكية وعليه ردّ جميل الحرب العالمية وخطة مارشال وما بعد ذلك. رغم هذا يبدو أن كثيرين من الأعضاء غير راضين عن تلك الصيغة، وربما غير متفقين على استراتيجيات الحلف وتوجهاته. بعض دوله تجمعها روابط اقتصادية وثيقة بروسيا، وأخرى استوردت منها أسلحة ومنظومات دفاعية على غير رغبة بقية الأصدقاء أو قبولهم. كان مُخططا أن يلعب "الناتو" دورا ضد الاتحاد السوفيتى، الآن تريده الولايات المتحدة أداة ضد روسيا، وربما تسعى لتوسعة مجاله ليشمل المواجهة المرتقبة مع الصين، فى المقابل تبدو الأخيرة خصما حميميا للغاية يسكن البيت الأوروبى ولديه ولاءات واسعة داخل الطبقة السياسية. هكذا يبدو صعبا أن يستجيب "الناتو" لطموحات واشنطن، أو يتخلص من أزمة الهوية التى يعيشها فى مدى قريب.
الخسارة المدفوعة والأرباح المنتظرة
الحديث عن مآل الحرب يتعين أن يضع مواقف كل الأطراف على طاولة الفحص. أتصور أن روسيا حصّلت نصيبها من الخسائر كاملا، وإن تراجعت لن يختلف الأمر بالنسبة لها عن المواصلة، بل ربما تكون الفاتورة أكبر.. ما يُرجح - حسبما أتصور - استمرار التصعيد، لينحصر الخلاف فى الوتيرة وحدود المناورة.
يبدو "بوتين" واقفا إلى الحائط مباشرة. ارتداد روسيا معناه مكابدة النزيف دون أية مكاسب أو حتى تعويض معنوى، مع تداعيات التحدى الأورو-أطلسى بضم جورجيا وفنلندا وسويسرا، وربما أوكرانيا نفسها، لعضوية الحلف الذى لن يتوقف عن التحرش بالروس مُستقبلا، فضلا عن الهزيمة المعنوية وتبعات الغضب الداخلى لشعب سيعيش معاناة طويلة دون مقابل، ولو كان خطابا إعلاميا عن الأمن والقوة والهيبة. والأخطر أن صورة الرجل القوى التى بناها القيصر طوال عقدين ستهتز وربما تسقط تماما.
المواصلة تعنى توظيف الخسارة التى تحققت بالفعل، فى تحصيل مكاسب مباشرة تتصل بالأمن القومى ومصالح روسيا الجيوسياسية، أو محاولة تعويض جانب من خسائره بتوريط الخصوم فى سداد جزء من الفاتورة، وغير مباشرة قد تمتد إلى اقتصاد الغرب وصورته أمام شعوبه والعالم، وإلى صورة "الناتو" وموثوقيته وجاذبيته المغرية إلى الآن لدول عديدة مُستهدفة، وإلى الاقتصاد العالمى الذى ستتحمل أوروبا والولايات المتحدة كُلفة اهتزازه المعنوية أمام الجميع؛ بظهورهم فى صورة العاجز عن الإدارة الرشيدة، فضلا عن تكبُّدهم فاتورة مرهقة من فوائض الثروة وحالة الرفاهية.
مواجهة أولى.. مواجهات مقبلة
ربما بدأت الحرب كمواجهة بين روسيا المحمّلة بميراث طويل من التجاهل والإهانات، مقابل "واشنطن" وحليفها الأوروبى، اللذين لم يقنعا بوضعية الدب منزوع المخالب، فحاولا تطويرها إلى بناء قفص حديدى على مقاس جسده بالضبط؛ لكنها الآن تحولت إلى "حرب بوتين" ضد الغريم الغربى، وضد أصدقائه القدامى، وربما ضد خصومه فى الداخل الروسى نفسه. اتخاذ الحرب بُعدا شخصيا يهدد بألا تنتهى بتحقيق حد الأمان لروسيا وحدها، وإنما قد يرتبط الأمر بتطلعات "بوتين" ومستهدفاته الشخصية، وهو أمر لا يمكن معرفته حتى اللحظة. ربما يمتد إلى "بلقنة" أوكرانيا أو "أفغنتها"، أو ضم شطر عريض منها، أو دق إسفين فى تُربة "الناتو" الهشّة، أو خلخلة المنظومة الدولية بكاملها وتقويض مؤسَّساتها عمليا، حتى لو بدت مستقرة فى الوجه النظرى والممارسة اليومية، وربما يرضيه أن يخسر الآخرون قدر خسارته بالتمام.
الثقافة الروسية فى عُمقها ثقافة حرب، لهذا ما قد نراه فادحا وكافيا للدفع خارج الحلبة، قد يراه "بوتين" وفريقه مُحتملا ومقبولا. المشكلة أن خطاب "الميديا الغربية" يُدير المسألة وفق منطق لا يخص الروس، فجعلوا ابتلاع أوكرانيا الغاية، واعتبروا تعطُّلَها دليل فشل، بينما لا نعرف طبيعة الخطة الروسية للغزو على وجه التحديد، وهل تستهدف السيطرة الكاملة على الأرض، أم بناء جيوب مرتبطة جغرافيا تسمح بمد الخطوط شرقا للحدود الروسية وجنوبا للسيطرة على البحر الأسود، أم امتلاك حزام آمن من أوديسا لخاركيف ليكون نهر "دنيبر" مع قدر من التجانس الديموغرافى مانعًا طبيعيا يشطر أوكرانيا نصفين، أم إطالة أمد الاستنزاف وإحراج الخصوم وخنق الشجرة من جذورها لتذبل وتجف وتسقط وحدها، أم غير ذلك أصلا. وما الكُلفة المحتملة بالنسبة لروسيا لقاء هذا الهدف - حسب رؤيتها وقدراتها واستعدادها - لهذا لا يمكن إطلاقا الجزم بما إذا كان "بوتين" نجح أم فشل، وما إذا كانت خسائره فوق التوقع أم وفق حساباته المُجهَّزة سلفًا.
ما لم يحدث توافق سياسى يرضى تطلعات "بوتين" أولا، ثم روسيا ثانيا، فإن الأمر قد يمتد طويلا. يمكن أن تحتمل موسكو أسابيع وربما شهورًا من التوتر، لكن خزانات الطاقة الغربية لن تحتمل، وحتى باب التعويض المفتوح نظريًّا من خلال "أوبك" وبعض الدول الحليفة، أو تصفية النزاعات القائمة مع فنزويلا وإيران، لن يكون عمليا مع اشتعال الأسعار وعدم القدرة على إعادة تعبئة الاحتياطيات فى أجل قريب، أو مع عقود غاز طويلة الأجل من المنابع المُحتملة لصالح بعض دول آسيا. ألمانيا ستكون أول النازفين، ومن ورائها الولايات المتحدة نفسها، ثم بقية دول أوروبا.
اتساع رقعة الأزمة يُخلى الملعب ويترك الكعكة للصين دون رقابة أو مزاحمة، وهى خصم أكثر قوة وشراسة من روسيا ولا يحب "الأورو-أطلسيون" أن يزداد حجمها فى غفلة منهم، ورغم الضغوط المتوقعة على سلاسل الإمداد والتجارة العالمية بكاملها فإن بكين ستفوز بأكثر المنافع الممكنة، مع بُعدٍ نسبى عن المخاطر المتصاعدة، لذا ربما لو امتد الأمر إلى حدِّ الخطر فيما يخص إطلاق عنان التنين الآسيوى فقد يصب عامل الوقت فى اتجاه تعزيز موقف روسيا، ما يدفع الغرب إلى بدء مسار التهدئة والبحث عن حل. وقتها قد تزداد الفاتورة عليهم، لأنهم سيتحملون خسائرهم وخسائر حلفائهم، وقد يتحملون - بالتوافق أو الضرورة - جانبًا من خسائر القيصر الجريح، فضلا عن فاتورة الفسحة المجانية التى فاز بها "خصم المستقبل". ربما بعدما تنتهى لعبة "عض الأصابع" فى أوكرانيا، سيقضى الناتو سنواته المقبلة يعض أصابع الندم قبل مواجهة لن تكون أقل شراسة، بينما سيكون البيت الأطلسى أقل ثباتا مما هو عليه الآن!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة