رصاصة طائشة استقرت فى قلب الاقتصاد العالمي.. بهذه العبارة يمكن إيجاز مشهد تداعيات الحرب الأوكرانية الدائرة منذ قرابة شهر، حينما بدأت القوات الروسية فى 24 فبراير الماضى توغلاً عسكرياً فى الشرق الأوكرانى، ما كان له آثاراً صادمة على أسواق النفط والغاز، لتبدأ ـ ككرة الثلج ـ موجة تضخم متزايدة عالمياً، طالت اقتصاديات الكبار، وكان لها أثراً صادماً على الدول الناشئة وتلك التى كانت تحاول التعافى من القيود التى واجهها الإنتاج وحركة التجارة منذ ظهور وباء كورونا قبل ما يقرب من 3 سنوات.
وبدأت العديد من الدول تتجه إلى رفع أسعار الفائدة، ففى الأسبوع الماضى أقدمت 10 دول على هذه الخطوة. فأقر مجلس الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى رفع معدلات الفائدة على الأموال الفيدرالية بربع نقطة مئوية لتصبح 0.5%، وذلك للمرة الأولى منذ عام 2018. وقالت "لجنة السوق المفتوح الفدرالية" أن تداعيات الحرب فى أوكرانيا ستتسبب "على الأرجح بضغط يؤدى إلى ازدياد التضخم ويؤثر على النشاط الاقتصاد"، فيما أشارت إلى أن "زيادات متواصلة فى المعدل ستكون مناسبة".
وحذر المجلس من أن "التضخم لن ينحسر على الفور استجابة للارتفاعات الأولية في أسعار الفائدة"، متوقعا ارتفاع التضخم إلى 4.2% مقارنة بمعدل 2.6 سابقا، وخفضوا تقديرات النمو إلى 2.8% ، مقارنة بـ4.0%..وقال: "بقاء معدلات التضخم مرتفعة، يعكس اختلالات العرض والطلب المتعلقة بوباء كورونا، وارتفاع أسعار الطاقة، وضغوط الأسعار الأوسع".
وإلى جانب الولايات المتحدة، قامت البرازيل أيضا برفع معدل الفائدة بمقدار نقطة مئوية كاملة لتصل إلى 11.75%، وتعهدت بزيادة مماثل خلال اجتماع البنك المركزى عندما بلغ التضخم 10.54%.
وأعلنت سلطة النقد فى هونج كونج يوم الخميس الماضى رفع معدل الفائدة أيضا بمقدار ربع نقطة مئوية ليصل إلى 0.75%، وقالت إن الهدف هو الحفاظ على استقرار النظام المالى فى ظل التذبذب الحالي.
وأعلن بنك إنجلترا رفع الفائدة للمرة الثالثة على التوالي بمقدار 0.25% إلى 0.75%، فى محاولة للحد من التضخم الذى بلغ مستوى غير مسبوق منذ 30 عاما.
ورفعت كل من السعودية والإمارات والبحرين والكويت أسعار الفائدة لديها بمقدار 0.25%، في استجابة لرفع الفائدة في الولايات المتحدة، استمرارا لسياسة الارتباط النقدي الوثيقة.
وفى مطلع مارس، رفع بنك كندا المركزى، سعر الفائدة الرئيسى إلى 0.5 فى المائة، وهى المرة الأولى التى يرفع فيها البنك سعر الفائدة منذ 2018.ومن المتوقع أن ينفذ البنك المركزى سلسلة من الزيادات الطفيفة فى أسعار الفائدة هذا العام، فى الوقت الذى يحاول فيه كبح جماح التضخم الذى ارتفع إلى أعلى مستوى له منذ عقود.
أما روسيا، فقد قرر البنك المركزى فيها رفع سعر الفائدة إلى 20% بسبب العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو فى أعقاب الهجوم على أوكرانيا.
الكابوس الاقتصادي للحرب الأوكرانية، رصدت مشاهده صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في تقرير لها الأثنين ، قائلة إن الحرب سببت صدمة فى الأسواق الناشئة العالمية، والآن أصبح الكوكب يواجه أزمة أعمق، وهى نقص الغذاء.
وأشارت الصحيفة إلى أن حصة كبيرة من القمح العالمى والذرة والشعير محاصرة فى روسيا وأوكرانيا بسبب الحرب، فى حين أن كمية أكبر من الأسمدة العالمية عالقة فى روسيا وبيلاروسيا. والنتيجة هي ارتفاع أسعار الغذاء العالمى والأسمدة. ومنذ الغزو الروسى الذى بدأ الشهر الماضى، ارتفعت أسعار القمح بنسبة 21%، والشعير بنسبة 33% وبعض الأسمدة زادت بنسبة 40%.
ويزيد من تعقيد هذا الاضطراب تحديات كبيرة، والتي كانت تزيد الأسعار بالفعل وتضغط على الإمدادات من بينها وباء كورونا وقيود الشحن وارتفاع أسعار الطاقة وموجات الجفاف والفيضانات والحرائق. والآن، يحذر خبراء الاقتصاد ومنظمات الإغاثة ومسئولو الحكومة من التداعيات والتي تتمثل فى زيادة الجوع فى العالم.
وتكشف الكارثة الوشيكة تداعيات حرب كبرى فى العصر الحديث من العولمة، فأسعار الغذاء والأسمدة والغاز والنفط وحتى المعادن مثل الأولومنيوم والنيكل كلها ترتفع بشكل سريع، ويتوقع الخبراء الأسوأ مع توالى الآثار.
وفى بداية تعاملات الاثنين ، كانت أسعار النفط مع زيادة باتت معتادة منذ اندلاع الحرب، حيث ارتفعت أسعار العقود الآجلة للنفط الخام بأكثر من 4% وسط أنباء تُشير إلى أن المحادثات الروسية الأوكرانية لم تسفر عن أى إشارة على إحراز تقدم، فيما استمرت مخاوف الأسواق بشأن نقص المعروض والتي أثارت دعوة من وكالة الطاقة الدولية لخفض الطلب على النفط.
وصعدت العقود الآجلة لخام برنت القياسي الدولي تسليم مايو بمقدار 4.29 دولار، بنسبة 3.97%، ليتداول عند 112.21 دولار للبرميل، وأضافت العقود الآجلة للخام الأمريكي تسليم مايو بمقدار 4.47 دولار، بنسبة 4.34%، لتتداول عند 107.54 دولار للبرميل.
وقال ديفيد إم باسيلى، المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة، والذى يطعم 125 مليون شخص يوميا إن أوكرانيا وحدها تشكل كارثة فوق كارثة، فلا يوجد سبقة قريبة حتى من هذا منذ الحرب العالمية الثانية.
وتوشك المزارع فى أوكرانيا على تفويت مواسم الزراعة والحصاد الهامين. كما أن مصانع الأسمدة الأوروبية تحد بشكل كبير من الإنتاج بسبب أسعار الطاقة المرتفعة. بينما يقلل المزارعون من البرازيل إلى تكساس من استخدام الأسمدة، مما يهدد حجم الحصاد فى المواسم القادمة.
وتخطط الصين، التي تواجه أسوأ موسم لمحصول القمح منذ عقود بسبب الفيضانات الشديدة، تخطط لشراء المزيد من الإمداد العالمى المتراجع، بينما تشهد الهند التي تصدر عادة كمية صغيرة من القمع زيادة أكثر من ثلاث اضعاف فى الطلب الأجنبي مقارنة بالعام الماضى.
وفى الولايات المتحدة، ورغم أنها لا تستورد الكثير من الغذاء من روسيا وأوكرانيا، إلا أنها تتوقع ارتفاعا فى أسعار الغذاء وتكلفة الغذاء، بحسب ما ذكرت صحيفة واشنطن بوست. ويقول المحللون إن الآثار الواسعة للصراع فى أوكرانيا سيؤدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء فى الولايات المتحدة، ولان روسيا هي المصدر الرئيسى للأسمدة، فإن الصراع سيؤثر على ما يتم زراعته فى الأراضى الأمريكية.
وحول العالم، ستكون النتيجة متمثلة فى ارتفاع أسعار البقالة، حيث شهدت الولايات المتحدة فى فبراير الماضى ارتفاعا فى أسعار البقالة قدره 8.6% مقارنة بعام سابق، وهى الزيادة الأعلى منذ 40 عاما، وفقا للبيانات الحكومية. ويتوقع خبراء الاقتصاد أن تزيد الحرب من تضخم تلك الأسعار.
وبالنسبة لهؤلاء الذين يعيشون على حافة انعدام الامن الغذائي، فإن الزيادة الأخيرة فى الأسعار يمكن أن تدفع كثيرين إلى الحافة. وبعد أن يظل مستقرا فى الأغلب لخمس سنوات، فإن الجوع ارتفع بنسبة 18% خلال الوباء بين 720 مليون على 811 مليون نسمة. وفى وقت سابق هذا الشهر، قالت الولايات المتحدة إن تأثير الحرب على سوق الأغذية العالمى وحده يمكن أن يسبب انضمام ما بين 7.6 مليون إلى 13.1 مليون شخص إلى الجوعى.
وقد أدى هذا إلى حالة من الذعر بين الحكومات بشأن كيفية التعامل مع الأزمة الوشيكة، بحسب ما قالت وكالة بلومبرج الأمريكية.
وقبل اجتماع وزراء الزراعة بالاتحاد الأوروبى، الاثنين، قال وزير الزراعة الفرنسي جولين دينورماندى إن الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وهما اثنتان من أكبر منتجى الحبوب فى العالم، يمكن أن يؤدى على أزمة غذاء على الصعيد العالمى.
وخلال اجتماعهم ناقش مسئولو الاتحاد الأوروبى سبل جعل إمدادات الغذاء أكثر أمنا. وتشمل المقترحات السماح باستخدام الأرض البور لزراعة المحاصيل البروتينية وتقديم الدعم لصناعة لحم الخنزير.
وتتحرك بعض الدول الأوروبية بمفردها فى محاولة لتأمين غذائها، حيث خصصت بلغاريا، وهى مصدر كبير، تمويلات حكومية لزيادة احتياطي الحبوب الوطنى لديها، بهدف شراء 1.5 مليون طن.
وفى فرنسا، تريد رابطة منتجى الطعام من الحكومة تخزين 800 ألف طن من الحبوب التي تحتاجها كل شهر، خوفا من أن تؤدى الشهية العالمية للحبوب إلى التأثير على الإمدادات لمحلية. وخارج الكتلة الأوروبية، قامت دول مثل مولدوفا وصربيا بتقييد مبيعات الحبوب مثل القمح والسكر.