فتحت الأديبة الكبيرة سلوى بكر قلبها فى حوار شامل مع اليوم السابع، امتد لعدد كبير من الموضوعات والقضايا شملت الثقافة والفنون والتاريخ والأنثربولوجيا وحتى السياسة ومستقبل مصر، ونشر اليوم السابع الجزء الأول منه، والآن ننشر الجزء الثانى الذى تطرقت فيه الكاتبة الكبيرة لقضايا فنية أكثر اتصالا بالحياة الثقافية وإلى نص الحوار:
سلوى بكر مغرمة بذكر التفاصيل الدقيقة فى كتاباتك بشكل يقترب من السيناريو.. هل تقصدين إلى تسهيل أعمالك للتلفزة أم أنك تحاولين إدخال القارئ بحواسه الخمس إلى عوالمك الخاصة؟
ياريت يا شيخ.. ولو أنى كذلك إذن فأنا عبقرية.. على العكس.. أنا لا أحب تلفزة أعمالى.
ـ عناوينك يصعب أن تتداخل مع إنتاج كاتب آخر، كما قد تتداخل مثلا "رائحة البرتقال" لمحمود الوردانى و"بشائر اليوسفى" لرضا البهات و"زهرة البرتقال" للبنى أبو زيد، هل تحرصين على تحقيق الخصوصية أم أن الهدف هو الرواج التجارى؟
أنا لا أقصد إلى شىء مما ذكرت.. فقط أعتبر أن العنوان الناجح هو العنوان الذى يكثف الخطاب، فالعنوان جملة مركزية فى السرد، ذلك السرد الذى من خلاله صُنعت عوالم وبنية وشخصيات، فكل هذا المستهدف من ورائه "خطاب".. العنوان إذن هو الذى يكثف هذا الخطاب، ويجيب على سؤال: ما الذى تريد هذه الكاتبة قوله.. لكن أنا لا أستهدف العنوان الغرائبى المجانى، البشمورى مثلا.. سبب لى الكثير من السخرية، لكن كان هدفى هو إثارة التساؤل حول المناطق الرمادية من تاريخنا، تلك المسكوت عنها والمجهولة والمهملة التى لا نعرف عنها شيئا، هذا التساؤل هو المستهدف.. أنا أكون مشغولة بإثارة الاستفهام عن طريق استدعاء الخطاب للعنوان.
ـ هل اتكاؤكِ على التاريخ هو لتقديم عوالم تدهش القارئ، خاصة وأن للتاريخ عبقه الخاص، أم أن عينكِ موضوعة على الترجمة وذيوع الصيت فى الخارج على اعتبار أن مثل هذه الأعمال تتأطر بالفلكلور والحكاية الشعبية، وهى مرغوبات المستشرقين الأثيرة لكونها تغذى صورة الشرق التقليدية؟
أولا نحن نعانى من القحط التاريخى.. القحط ليس ناتجا فقط من ضعف القراءة ولا ضحالة المادة المقدمة عبر المناهج الدراسة فى السلم التعليمى المصرى، وإنما أيضا بسب الطول الهائل للشعب المصرى، نحن نملك تاريخا لا يملكه أحد غيرنا.. تاريخ فرنسا وانجلترا ومعظم دول العالم منذ متى؟!
هذا القحط نتج جزؤه الأكبر بسبب القطيعة بين اللغة المصرية القديمة واللغات المصرية التى تلت فى عصور لاحقه، بدأت هذه القطيعة منذ العصر الرومانى 330 ق.م، فمن هذه الفترة أصبحت هناك قطيعة تجعل الأجيال المصرية المتتابعة تقف أمام جدارية أو بريدية ولا تستطيع قراءتها، هنا أرى أن مهمات الرواية التاريخية أصبحت تختلف، ففى فترات سابقة ـ مثل فترة روايات جورجى زيدان وغيره ـ كانت الرواية التاريخية إطارا لحدث ما له إسقاطات معاصرة، أما الآن فقد شبت عن الديكور التاريخى لشخصيات تاريخية تجعل منها رواية مسلية، إن من مهمات الرواية التاريخية إعادة العلاقة بين المتون والهوامش التاريخية، ما هو هامش قد يكون متنا العكس بالعكس، وهذه المسألة الأولى.
والمسألة الثانية هى ملء الفراغات التاريخية، لأن التاريخ ممتلئ بالفراغات التى لا نعرف عنها شيئا، والرواية بقدرتها على التخييل تتمكن من تقديم روايات محتملة لهذه الفراغات، إنها تضع احتماليات ما، وبالتالي فالرواية التاريخية تضع أسئلة حول الروايات التاريخية التى جاءتنا عبر التأريخ، فتتناول ما قد حدث ولم تنتبه له، لدينا مثلا.. الحروب الصليبية التي رواها ويلم الصورى، وكتاب عرب ومسلمون ومسيحيون آخرون، ومنها رواية كتبها كاتب مجهول من الرها، هذه الروايات تشكل أرضا مزروعة بعدد كبير من الاستفهامات والأسئلة، ومن كتب على المسلة وكتب تاريخ رميسس الثانى هو مؤرخ، وبالتأكيد انتقى أحداثه، وقد يكون ضخم شيئا منها وتجاهل أحداثا أخرى، بل ولا يستبعد أنه ألف من مخيلته ما لم يقع، هنا نجد جدلا يصنعه التقابل بين مصطلحى التاريخ والتأريخ.
ألم تفكرى في تقديم حصيلة قراءاتك التاريخية بعيدا عن الأدب والرواية، أعنى بشكل مباشر يعطى حرية أكثر فى جمع مجمل خبراتك وملاحظاتك فى طابع فكرى تاريخى وتأريخى، يشمل ما تشيرين إليه من هوامش ومهمشين ومسكوت عنه ومناطق رمادية، وتاريخ اجتماعى أو تاريخ موازٍ للمصريين؟
أتصدق إن معظم القراءات التى استوقفتنى فى التاريخ هى صالحة للكتابة الروائية؟.. لكن السؤال هنا هو: هل يتسع الوقت لإصدار كل هذا فى دفقات روائية؟.. وأنا روائية.. أكتب الأدب.. أما الكتابة التاريخية الصرف فلدينا مكتبة تاريخية يتقدمها باحثون مصريون رائعون جدا، فأنا لن أقول فى الحروب الصليبية ـ مثلا ـ أفضل مما قاله قاسم عبده قاسم.
نعم مصر غنية بكم كبير من الباحثين المتميزين، ومصر رأس مالها الحقيقى الإنسان، فمصر غنية بالإنسان المصرى،أريد أن أقول لك: نحن لا نتعلم ولا نعرف والإعلام سطحى، وأنا أحب أن أخرج هذه الشحنات فى صورة رواية، وقد تتعجب عندما تعلم أننى لا أستمتع بقراءة الأدب، أنا أستمتع بقراءة التاريخ، خاصة التاريخ القديم والوسيط، لأنه يعطيك فرصة للخيال.. لديك مثلا العظيم محمد رمزى، عامل "جغرافيا مصر".. لديه كراس عن شبرا ويقول أن شبرا كانت بدايتها عبارة عن قارب فى النيل فى وقت الفيضان غرق، وظل الطمى يتجمع حوله بشكل متراكم إلى الحد الذى صنع "شبرا"، وكان ذلك فى القرن الـ 12.. يعنى قبل ذلك لم يكن هناك "شبرا"، وتغمض عينيك وتتأمل هذا.. وقبل القرن ال15 لم يكن هناك السيدة زينب، وكان النيل يطلع من فوم الخليج ويدخل على الحلمية الجديدة وشارع بورسعيد وشارع 26 يوليو.. كل هذا كان مياه، وبدأت نشأة باب اللوق وباقى الأحياء.
التاريخ ألذ من أى رواية وبه الكثير من التفاصيل التى تتوقف عندها وتاريحنا متراكم، وفترة الفاطميين بها كنوز، كلها صالحة لعشرات الأنواع من الإنتاج الفنى مسلسلات وأفلام وروايات وغيرها، وهناك أدباء آخرون يعملون على هذا الجانب، فريم بسيونى شغالة على العصر المملوكى وأخرجت عملا عن العصر الطولونى.. ودا كويس جدا.. أما الطرح المباشر فهذه ليست وظيفتى ولست متخصصة ولا أزعم.
الصفصاف والآس كتبتيها عن الحملة الفرنسية.. هذه الفترة ممتلئة بالإشكاليات، وأبرزها ـ وأنت المعنية بالتاريخ الموازى والمناطق الرمادية ـ قصة المعلم يعقوب، كيف تنظرين إليه فى ظل الجدل المنصوب حوله؟
= العمل عن "زينب البكرية" بنت نقيب الأشراف فى مصر، وكانت عشيقة لنابليون ووافق أبوها على ذلك ليصل إلى النفوذ ويحقق أطماعه وفى النهاية قتلها الثوار المصريون، فأبوها قدمها لأسباب سياسية لتوطيد علاقته بالفرنسيية، أما يعقوب المصرى فـ"ضحى عاصم" صنعت قصته، وأنا أرى أن هذا كان من ضمن محاولات مواجهة الاستبداد العثمانى، ولم تكن ضد مصر والمصريين، وأنا شخصيا فى التاريخ أرى الوثائق المكتوبة وأتفحصها واستنبط منها، مع العلم أنه لا يوجد أسود أو أبيض بالكامل.. كل إنسان له ما له وعليه ما عليه، والأهم ـ ونحن نقرأها ـ أن نراها بشكل بانورامى وأن نسقطها على حياتنا المعاصرة، والإشكالية كانت فى الدولة العثمانية، فالدولة العثمانية قام عليها مشروع الإخوان المسلمين وهذه كارثة.. وكانت مرحلة ما قبل الحملة الفرنسية أخطر مرحلة فى حياة المصريين.. من القرن الـ16 إلى 18، 200 سنة فيها كلام كثير جدا.
ـ أصدرتى أول مجموعة قصصية على نفقتك الخاصة ما يعنى أن المواهب الجديدة تفتقر إلى الدعم والاعتراف، فليس كل جيل أو موهبة ستحظى بدور كدور عبد الفتاح الجمل في دعمه لجيل السبعينات والستينيات، ألا يستدعى ذلك تحركا منكم أنتم المثقفون والكتاب الكبار لتقديم هؤلاء والاعتراف بهم.
عبد الفتاح الجمل لم يكن له أى دور معى، بالعكس .. تعامل معى بشكل فوقى وسمعت أنه سأل: من يكتب لها؟.. رغم أنه ينسب إليه دعم جيل الستينيات والسبعينيات، لكن ربما لأنهم كانوا "مع بعضهم"، وأنا أقرأ للأصوات الجديدة باستمرار، ليس من باب التشجيع وما إلى ذلك ولكن كى أتعرف على الخريطة وما فيها، وأعرف أنا موقعى منها، وأريد أن أقول لك شيئين فى هذه النقطة، الأولى أنه نظريا يفترض أن تكون الكتابات الجديدة لشباب أفضل من القديمة.. فهذا شيء طبيعى.. وإلا فنحن فى مأزق.. الحاجة الثانية أن هناك الكثير من الكتابات السردية قصة ورواية عالية المستوى بالفعل، سواء أدب نسوى أو ذكورى، هى بالفعل أعمال تضيف إلى خريطة الكتابة، هذه حقيقة دون ذكر أسماء حتى لا أنسى أحدا.. نعم.. لدينا بالفعل منجز هام جدا مشكلته الأساسية أنه يعانى من كم كبير من الكتابات الرديئة، هذه الكتابات الرديئة تظلم الجيد وتغطى عليه أو على الأقل لا تبرزه على نحو كاف.
إذن ننتقل إلى النقطة التالية التي تطرح نفسها والخاصة بتسليع الثقافة وصناعة نجوم مزيفين لها، كيف يمكن التخلص من هذا الوضع أو حتى التخفيف منه؟
ليس هناك حل.. وكل شىء مسلع حتى الثقافة والتعليم وهذا دور المثقف.. المثقف دوره الحقيقى أن يرفد المجتمع بأفكار تعينه على تجاوز عثراته.. فالمثقف عندما نزل مظاهرات 25 يناير لم يكن نزوله بصفته مثقفا ولكن بصفته مواطنا ، والمؤسسة الوحيدة التى تفعّل من دور المثقف وتجعله إيجابيا وفاعلا هى مؤسسة التعليم.. روح اشتغل مدرس.. فى المدرسة قبل الجامعة.. لأن الأفكار التى سيقولها تحتاج إلى حوار مع النشء، وكذلك كان كل المؤثرين فى الحداثة فى مصر.. كانوا يعملون فى هذه المناطق.. مثل طه حسين وغيره.. ولديهم تلامذة ومريدون ومؤمنون بأفكارهم حتى الآن.. أما الصوت والصدى وقيادة عملية تحرر فكرى وثقافى فكل هذا كلام جميل ولكن غير قابل للتطبيق.. والندوات والآليات التى ينفذها المثقفون معزولة وضعيفة الأثر.. كما أن هذه الندوات على مستوى الكم والتوزيع الجرافى محدودة للغاية.
أنت فى بلد "منتج الثقافة" هو "مستهلكها".. فجارتى لا تقرأه ولا البواب ولا بائع الخضار.. وهذه كارثة.. في روسيا أيام الاتحاد السوفيتى وأنا كنت هناك ذات مرة كان الكاتب "رسول حمزتوف" يبيع 40 مليون نسخة، و"ألف شفق" باعت 65 مليون نسخة من روايتها "قواعد العشق الأربعون".. فهذه مجتمعات مختلفة
يذكر أن سلوى بكر ولدت فى القاهرة عام 1949. وكان والدها يعمل في السكك الحديد. ونشأت في عائلة والدتها ثم حصلت على بكالوريوس التجارة عام 1972. لتعود وتدرس النقد المسرحي 1976، وبدأت إنتاجها الأدبي في العام 1979، ولها عدد كبيرا من الروايات والأعمال القصصية، كانت كالتالى: حكاية بسيطة 1979، مقام عطية 1984، زينات في جنازة الرئيس، 1986، العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء (رواية) 1991، عجين الفلاحة 1992، وصف البلبل 1993، أرانب، وقصص أخرى 1994، إيقاعات متعاكسة 1996، البشموري 1998. نونة الشعنونة (رواية) 1999. حلم السنين (مسرحية): الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002. سواقي الوقت (رواية) 2003. شعور الأسلاف (مجموعة قصصية) 2003، كوكو سودان كباشي (رواية) 2004. أدماتيوس الألماسي (رواية) 2006. من خبر الهناء والشفاء (مجموعة قصصية) 2006. الصفصاف والآس (رواية) 2010. وردة أصبهان (مجموعة قصصية) 2010. وأخيرا رواية "فيلة سوادء بأحذية بيضاء" التي شاركت بها الديبة في معرض الكتاب هذا العام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة