كانت صدمة وفاة العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، أكبر من احتمال أستاذه الموسيقار محمد عبدالوهاب، فبعد أن تلقى خبر وفاته فى المستشفى بلندن يوم 30 مارس 1970، أغلق حجرته وظل ملازما لها يصلى، وفقًا لما تذكره الأهرام فى عددها يوم 1 إبريل 1977.. تضيف: «اتصل عبدالوهاب مساء 30 مارس، مستفسرًا عن حالة عبدالحليم فى الوقت الذى كان ينزف فيه، وأخفوا عليه سوء الحالة التى يمر بها عبدالحليم، وفى الساعة الثامنة من صباح 31 مارس، عاود الاتصال بالمستشفى، وما أن علم بالنبأ حتى انهار، وسقطت السماعة من يديه».
فى يوم 2 إبريل، مثل هذا اليوم، 1977، طرح الكاتب الصحفى كمال الملاخ سؤالا: «كيف التقى محمد عبدالوهاب بعبدالحليم حافظ؟..أجاب عبدالوهاب، وتدفقت ذكرياته، ونشرت الأهرام فى الصفحة الأخيرة «2 إبريل».. كانت حصيلة الإجابة أسرار تاريخ ما يزيد عن ربع قرن فى العلاقة بين الاثنين، وهو اليوم الذى شيعت فيه آلاف الجماهير مطربها المحبوب إلى مثواه الأخير.
كان «عبدالوهاب» يستدعى ذكرياته وإلى جواره طبيبه الخاص الدكتور عوض إبراهيم.. يذكر: «سمعت صوته حوالى سنة 1950 من 27 سنة.. كان يغنى فى ركن الهواة بالإذاعة، حيث كان يشدو بأغنية للنيل عن لحن محمد الموجى «ياتبر سايل بين شطين ياحلو يا أسمر/ لولا سمارك جوه العين ماكنت تنور/ ياحلو يا أسمر»، فأعجبت بصوته واتصلت بالإذاعة، وطلبت من حافظ عبدالوهاب، وكان عضوًا معى فى لجنة الاستماع، أن أرى صاحب هذا الصوت، فأتوا به إلىّ وقدموا وقدم نفسه: عبدالحليم إسماعيل شبانة.. قال لى حافظ عبدالوهاب إذا أعجبك فسنغير اسمه.. رددت عليه على الفور: ده يستاهل ونص.. حقيقى يستاهل يا حافظ، فاستأذننى حافظ عبدالوهاب فى أن أسميه عبدالحليم حافظ».
يضيف عبدالوهاب: من يومها بدأ عبدالحليم يتردد علىّ فى مكتبى بشارع توفيق يوميا.. نتغذى ونتعش سوا.. كان ساكن فى المنيل، وكان من يومها وصحته على قدها.. ضعيف البنية.. معرفش إذا كان المرض من يومها ولا لأ.. لكنه كان يتعب كثيرًا، أروح أزوره فى المنيل ولما يصح كان دائمًا فى بيتى ومعايا فى المكتب، وكنت لغاية مدة كبيرة من معرفتى به مستمعا له، ولم أفكر فى التلحين له إلا بعد أن أحسست جدا وهو بيغنى لى: «على إيه بتلومونى»، وكنت أحب أن أسمعه منه كثيرا».
يتابع عبدالوهاب حديثه وعيناه إلى بعيد وفقا لوصف الملاخ: «مش معقول.. مش قادر أصدق إن عبدالحليم مات.. ثم يسكت لحظة ليعود إلى متابعة حديثه: أول لحن أهديته له كان «توبة»، ونجحت الأغنية وبسبب هذا النجاح اتعمل لها فيلم خصيصا ولاعلاقة لقصة «أيام وليالى» باسم «توبة».. كان دائمًا يردد لى وأحيانًا أمام مجدى العمروسى «مدير أعماله»: أنا وخدك مثل لى.. مثل أعلى.. فى السلوك.. فى الكلام.. فى المعاملة.. فى الفن طبعًا.. وهنا كنت أضحك واسأله: طيب مبتقلدنيش ليه فى المحافظة على صحتك؟.. وبدأت أهتم به وبأعماله الفنية، وقبل أن يصبح شريكًا معى فى «صوت الفن» التى أساهم فيها.. كنت شريكا فى بيضافون للأسطوانات.. وقد كانت أسطواناته الأولى فيها، وبدأت بـ40 جنيها لأغنية «صافينى مرة»، وبعد سنة تدرج المبلغ إلى 200 جنيه ثم أكثر للأسطوانة، وبعدها تعاقد على نسبة 27 لى فى المائة من ثمن كل أسطوانة».
يعيد كمال الملاخ، عبدالوهاب إلىّ رأيه الفنى فى عبدالحليم، فيتمهل عبدالوهاب قبل أن ينطق بحكمه، ويقول: «عبدالحليم فيه شخصية فنية مستقلة فى التأدية، ولو أنها الخيط الذى يربطه بها هو الخيط المتطور الجديد، ويمكن أن أقول: عبدالحليم له أسلوب ذاتى.. أخلص لفنه.. أخلص لخدمة فنه فى أحسن مظاهره، بدءا من وجهة ثراء الأوركسترا وكبرها وآلاتها، والتعب فى اختيار الكلمة واللحن..إخلاص فوق المعقول.. ذواقة، متذوق.. وكان يقدر أن يضع بسهولة يده على الأحسن.. كان متشددا فى الوصول إلى الكمال، إلى أحسن مظهر فنى.. عبدالحليم، ملتزم ميلعبش كتير فى اللحن، لا إضافات تهز كيان اللحن الأصلى بحيث كانت الجملة تصل إلى الجمهور..معبرا بإيماءاته وحركاته، ورأسه وشعره وملامحه وذراعيه ويديه وأصابعه وجسمه حتى بعينيه، خاصة فى السنوات الأخيرة.. كان كثير التردد على التطور الفنى فى أوروبا، ولهذا طعم شخصيته بالمزيد، وأضاف التعبير الجسدى.. عبدالحليم كان يعطى كل صوته، لا يخفى منه شيئا.. يعطى كل ما عنده بكل انطلاقة وبكل قوته وكل حجمه، يعطيه كاملا للناس.. وكان يمتاز امتيازا ساطعا وباهرا خاصة طبقات صوته المتوسطة والمنخفضة.