فى ورشة صغيرة عتيقة يفوح منها عبق الماضى بأحد أحياء مدينة المنصورة، يقف شاب أربعيني، يحيى ذكرى والده وهو يتصبب عرقا وسط شظايا النيران، أمام "كور" يتخطى عمره الـ100 عام، ينبعث منه لهيب كومة من الفحم الأسود المشتعل، يتأمل قطع الحديد وهى تلين وتنصهر ويشتد احمرارها، وأمامه سندان عريق يدق عليه قطع الحديد الساخن بحركة إيقاعية متناغمة تتداخل بقوة مع دقات قلبه وأنفاسه، حتى يعيد تشكيلها ببراعة ودقة وإتقان.
"حدادة النار" أو كما يطلق عليها "حدادة النقر".. مهنة وليد نبيل صاحب الـ45 عاما منذ أكثر من 37 عاما، إذ عاش طفولته فى تلك الورشة، يراقب جده ووالده وهما يطوعان بأيديهما التى غطت معالمها الشقاء بالعمل فى مهنة صعبة طيلة حياتهم بحثا عن لقمة العيش، ودفعه حبه وتقديره لها ليتعلمها ويحترفها، ويتشبث بها بالرغم من مشقتها وما تواجهه من مخاطر تهدد بقائها؛ ليحافظ على اسم وتاريخ والده فى حرفة يدوية تقليدية أصيلة تحمل فى طياتها تراث وتاريخ تعود جذوره لمئات السنين.
"من صغرى وانا فى الحدادة، معرفتش غيرها، كنت بقف لساعات طويلة وانا عندى 8 سنين قدام فرن النار عشان أصهر الحديد، وادقه مع والدى على السندان.. صنعة أصيلة كان ليها قيمتها بس دلوقتى بتنقرض".. بهذه الكلمات بدأ "نبيل"، حديثه لـ"اليوم السابع"، فقال إنه عمل بمهنة الحدادة منذ طفولته، كان يأتى للورشة ذاتها مع والده وجده يتأملهم بفخر واعتزاز، منبهرا بمهاراتهم الفائقة وإتقانهم ودقتهم فى تشكيل قطع الحديد، معتمدين على أدواتهم التقليدية وجهدهم العضلى وفطنتهم وخبرتهم، مشيرا إلى أنه امتهن الحدادة وعمره لا يتجاوز الثمانى سنوات، ومع مرور الوقت أحبها وأبدع فيها واحترف تشكيل وصناعة كافة الأدوات الحديدية المختلفة، معتمدا على أدواته من مطرقة وسندان ومساكة وفرن نار يزيد عمره عن المائة عام.
وتابع أن المهنة تعد من الصناعات المحورية وأساس الأعمال والمهن الأخرى، فعن طريقها يتم صناعة جميع أدوات الفلاح التى يحتاجها فى الزراعة من المناجل والفؤوس و"المناشر"، وأدوات الحدادة والنجارة، ومقصات المسلح والعتلات والسلاسل والأقفال والموازين فضلا عن الأبواب والشبابيك وغيرها، حيث يقوم بصناعة كافة الأدوات الحديدية يدويا عن طريق تحمية وتسخين الحديد فى فرن النار "الكور" المشتعل بالفحم الأسود باستخدام منفاخ يوجه الهواء المضغوط نحوه ليزيد من اشتعال الفحم عند الحاجة، ومن ثم الطرق عليه بالمطرقة أعلى السندان لتطويعه إلى الشكل المراد تصنيعه، موضحا أن صناعة الحديد تحتاج فى خطواتها لقوة عضلية كبيرة قادرة على تطويع الحديد العنيد، وصبر وقوة تحمل لمواجهة نيران الفرن والأدخنة السوداء المنبعثة منه، ومهارة وإتقان يعمل فيهما الحداد عضلاته وعقله.
واستطرد أنه بالرغم من أهمية مهنة الحدادة إلا أنها تواجه خطر الاندثار؛ نظرا لإقبال عدد كبير من الناس على شراء المنتجات الصينية المستوردة التى أصبحت بالنسبة لهم توفى بالغرض، بالرغم من ضعف متانتها وجودتها، فضلا عن عزوف الكثيرون عنها باحثين عن مهن أخرى لا تهلك صحتهم وتوفر لهم دخلا ماديا أكبر، قائلا: "المهنة معدتش زى الأول، وبقت على حافة الانهيار بعد سيطرة المنتجات الصينية على السوق، ورفض شباب الجيل الجديد الشغل فيها.. الجيل الجديد عايز الحاجة السهلة والبسيطة، ميقدروش يتحملوا الوقفة الطويلة قدام النار، ولا تقطيع الحديد وتكسيره.. صحيح المهنة صعبة وشاقة وعمرها قصير بس مهمة ومحتاجة للدعم، وأى حرفى ميقدرش يستغنى عنها".
الحداد وليد نبيل
حداد النار وليد نبيل
صهر الحديد
صهر قطع الحديد في فرن النار
طرق الحديد على السندان
مراحل صهر الحديد
وليد نبيل 37 عاما يطوع الحديد ويشكله بالنار
وليد نبيل احترف مهنة الحدادة في الثامنة من عمره ليحافظ على إرث والده
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة