دخل محمود فهمى النقراشى باشا رئيس الحكومة، على الدكتور محمد حسين هيكل باشا رئيس مجلس الشيوخ فى مكتبه صباح 12 مايو 1948، وطلب إليه أن يغلق بابه، ولايدع أحدا يدخل عليهما، حسبما يذكر «هيكل باشا» فى الجزء الثالث من مذكراته، مضيفا: «لما خلا إلى ذكر أنه يريد أن أعقد جلسة سرية لتعرض الحكومة على المجلس قرارها دخول القوات المصرية إلى فلسطين لقتال اليهود».
يعترف «هيكل باشا» بأنه اندهش مما سمعه لأن النقراشى كان من أشد ممثلى الدول العربية حماسة لعدم اشتراك القوات الرسمية لهذه الدول فى القتال، فلماذا حدث منه هذا التغيير؟.. يذكر هيكل باشا أنه سأل النقراشى: «هل الدول العربية كلها متفقة على هذا؟..أجاب النقراشى: «نعم».. قلت: وهل لدى جيشنا من العتاد الحربى ما يكفى حرب الميدان لثلاثة أشهر على الأقل؟..أجاب: نعم وأكثر من ثلاثة أشهر..قلت: وما عسى أن يكون موقف إنجلترا من هذا الأمر؟ وهل اتفقتم معها على خطة؟..أجاب: إنجلترا لا تعارض، وأنا مطمئن لها، وإن كنت لا أخفى عليك أنها قادرة إذا أرادت أن تقف منا مثل موقفها فى «نفارين».. يضيف هيكل باشا: «رأيت الرجل مصمما كل التصميم، وقلت: إذن فليطلب أحد أعضاء الحكومة فى المجلس الجلسة السرية ؟ ففكر هنيهة ثم قال: بل الأكرم أن تطلب الحكومة هذه الجلسة السرية، فلما انصرف جعلت أفكر فى هذا التغيير المفاجئ فى سياسة الحكومة المصرية.
فى صباح 13 مايو 1948 مر «دسوقى باشا أباظة» وزير الخارجية «حزب الأحرار الدستوريين» على «هيكل باشا» وسأله عن مقدرة مصر إذا دخلت الحرب، فرد: «الموضوع طرح للبحث فى مجلس الوزراء، وحيدر باشا وزير الحربية أكد أن الجيش المصرى وحده بجنوده وعتاده قادر من غير حاجة إلى معونة من الدول العربية الأخرى على أن يدخل تل أبيب، عاصمة اليهود فى خمسة عشرة يوما، وأن كل ما لديه من المعلومات تثبت له هذا القول، وهو لذلك لا يتردد فى دفع القوات المصرية إلى أرض فلسطين لمعاقبة العصابات اليهودية التى تعتدى على العرب من أهلها اعتداء وحشيا».
يضيف هيكل باشا: «انعقدت جلسة الشيوخ فى مساء ذلك اليوم «13 مايو»، وطلب رئيس الوزراء عقد جلسة سرية فى الغد، 14 مايو، مثل هذا اليوم، 1948 لمناقشة الموقف فى فلسطين، ووافق المجلس واقترح تأليف لجنة خاصة من جميع الأحزاب تنعقد فورا لتستمع إلى بيانات الحكومة وتقدم للمجلس رأيا، وتألفت اللجنة برئاسة محمد بك الوكيل– وكيل المجلس- وعقدت اجتماعها، وحضر رئيس الوزراء وأدلى بما لديه من معلومات، وأكد أن مصر على أتم استعداد لمواجهة الموقف، وأنها ستنتصر على اليهود لا محالة، وتمنع قيام الدولة اليهودية التى قررت الأمم المتحدة قيامها حين أقرت تقسيم فلسطين».
انعقدت الجلسة السرية، وعرض عليها الموضوع وقرار اللجنة التى وافقت بالإجماع على قرار رئيس الوزراء..يذكر هيكل باشا: «كان إسماعيل صدقى باشا عضو مجلس الشيوخ معارضا فى دخول الجيش المصرى أرص فلسطين، وكانت حجته أنه يعلم، وقد كان رئيسا للوزراء إلى آخر سنة 1946، أن الجيش المصرى تنقصه أسلحة كثيرة، وينقصه العتاد اللازم والكثير من الأسلحة إذا خاض الحرب، وكان يخشى فضلا عن ذلك أن تعتبر الأمم المتحدة دخول الجيوش العربية فلسطين تحديا لقرار التقسيم فتفرض على الأمم العربية ومنها مصر عقوبات لاطاقة لها بها، أو تمد اليهود بالأسلحة والعتاد وتمنعها عن مصر والأمم العربية فتدور الدائرة عليها، وأن مصر لامصلحة لها على أية حال فى خوض معركة لا شأن لها بها ولاناقة لها فيها ولاجمل».
حملت آراء صدقى باشا الكثيرين على التفكير فى الموقف لكن الردود عليه أضعفت من تردد المترددين، وفقا لهيكل باشا، مضيفا: «أكد رئيس الوزارة مرة أخرى أن لدى الجيش المصرى السلاح والعتاد لخوض الحرب شهورا عدة، وأيد اللواء أحمد عطية «باشا» تصريح رئيس الوزراء، وكان «عطية» إلى أشهر مضت وزيرا للحربية معه، كما كان وزيرا للحربية مع «صدقى باشا»، كذلك تكلم فؤاد سراج الدين باشا باسم المعارضة الوفدية، فأيد الوزارة تأييدا حارا، ورد على «صدقى باشا» ردا عنيفا وحبذ دخول القوات المصرية فلسطين، فانسحب صدقى باشا من الجلسة، وقرر مجلس الشيوخ دخول القوات المصرية فلسطين بإجماع الآراء».. يؤكد: «وافق البرلمان الحكومة على أن تدخل القوات المسلحة فلسطين، وكانت هذه القوات على حدود مصر أوكانت تجاوزتها فعلا ساعة صدور هذا القرار».
تؤكد الدكتورة لطيفة سالم فى كتابها» فاروق وسقوط الملكية فى مصر»، أن الملك فاروق كان صاحب قرار الحرب، وما لبث أن أصدره وعبرت القوات المصرية الحدود إلى فلسطين مع الجيوش العربية فى 15 مايو 1948.