انتهت فعاليات الدورة الـ 88 لـ مجمع اللغة العربية والتى أقيمت تحت عنوان "تعريب العلوم: التجارب، والمشكلات، والحلول"، وسعى إلى عقد جلسات حوارية، وصرح الدكتور صلاح فضل، رئيس مجمع اللغة العربية بعدد من التصريحات منها:
- نجح مجمع اللغة العربية بالقاهرة هذا العام فى اجتياز الاختبار الرقمى الأول، وكان هذا الاختبار هو اختبار المجمع الأم، وقد سبقتنا فيه مجامع أخرى فى العالم العربي.
-شهدت جلسات المؤتمر هذا العام دأبًا ونشاطًا ومشاركةً لم نكن نشهده فى المؤتمرات السابقة؛ وذلك بفضل جهود السادة رؤساء المجامع العربية، والسادة أعضاء المجمع المصريين والمراسلين.
-استحدثنا فى هذا المؤتمر جلسات نقاشية حوارية متعددة، ونجحت هذه الحلقات فى عقد صلة حميمة بين عملنا فى المجمع وبين الحياة الثقافية والعلمية والأدبية فى مصر والوطن العربي.
-استحدثنا كذلك رئاسة –كل من اتسع وقته تقريبا- للجلسات العلمية صباحًا ومساءً، فلم يبقَ أحد اتسع وقته وجهده وقابليته كى يشاركنا إدارة هذه الجلسات إلا وقام بذلك، وكل من أعضاء المجمع من مصر أو من خارجها أستاذ فى بابه، وعالم فى فرعه، وقائد فى مجاله، وصالح أن يكون رئيسًا لنا جميعًا. وهذا تقليد جديد نستطيع أن نتخذه شعارًا لنا.
-أن عمليات التهجين بين اللغات المختلفة، وبالنسبة لنا فى اللغة العربية نطلق عليها التعريب-هى عمليات ضرورية للتنمية اللغوية والفكرية والثقافية. لا تستطيع لغة أن تنعزل إلا أن تلقى مصيرها من الضمور والتحلل والانزواء. وكلما اتصلت أعراقها، وكلما اتصلت أسبابها بغيرها من اللغات الحية ازدهرت، كلما أخذت كانت قادرة على العطاء.
-الحضارة دورات: أخذ وعطاء، وإذا كانت مرت علينا مراحل أخذنا فيها من الآخرين، فقد سدَّدنا دَيْننا أكثر من مرة بأن بذلنا جهدنا العظيم فى عطاء غير منكور كان له أثره العظيم فى النهضة العلمية الأوربية الحديثة؛ وبهذا لا بأس علينا اليوم على الإطلاق أن نعود فنمد يدنا مرة أخرى فى دورات حضارية لنأخذ من علوم الغرب والشرق، ولنأخذ من النهضة المعاصرة ما نستطيع أن نأخذه بالتعريب، وبالترجمة وغير ذلك من الوسائل التى تثرى بها العقول، وتثرى بها اللغات، وتنهض بها الأمم، ولا نهضة لأمة تعتمد على الانخراط فى حركة الازدهار العلمي.
-التعريب ليس خيارًا، ولا أحسب أن أحدًا منا-مهما بلغ حماسه القومي، ومهما بلغ حسه الوطني- ينكر ضرورة التعريب، أو ينكر فضله، أو يزعم أن بوسعنا أن نستغنى عنه، أو نعكف على أنفسنا نجترّ ذواتنا؛ لأن مصيرنا سيكون حينئذٍ الاضمحلال والانعزال والبعد عن حركة صنع الحضارة.
-التعريب ضرورة، ونحن نمارسه-شئنا أم أبينا-لكن ما نحتاج إليه-وهذا ما سعى إليه هذا المؤتمر وأكد الجميع عليه-أن يكون التعريب عن وعي، وأن يكون بشروط؛ الشرط الأول: ألا يدفعنا على الإطلاق إلى الاستغناء عن اللغات الأخرى، ولن نستطيع الأخذ من الآخر إلا إذا كان لدينا إناء يتسع لهذا الأخذ، ولغتنا العربية هى الإناء الواسع العميق الذى يستطيع أن يمتص ويكيِّف ويستوعب ويأخذ من الآخرين، ويضفى على ما يأخذه طابعه الخاص، وصفته القومية، ولمسته الشخصية؛ فنحن لا نترجم. الشرط الثاني: أن يقوم بالتعريب من يتقن اللغتين بنفس الدرجة من الكفاءة؛ لأن من يتقن لغته لا يمكن له أن يتقن لغة أجنبية؛ لأن الكفاءة اللغوية لا تنشطر إلى شطرين؛ من يبزّ غيره فى لغة أجنبية ابحث عن سبب ذلك فستجد أن سببه الحقيقى أنه متمكن من لغته العربية؛ لذلك لم نجد كاتبًا فصيحًا ولا أديبًا بليغًا إلا وقد أخذ قدره بنصيب وافر من القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف ومن الشعر العربى القديم ومن بلاغة الفصحاء.
-التعريب يختلف تمامًا عن الترجمة؛ فالترجمة أن ننقل أعمال الآخرين كما هى وندرك عوالمهم، لكن التعريب أن ننظر فى نسيجنا الفكرى واللغوى والقومى والوطنى وننخرط فيه بخيوطنا الحريرية والذهبية التى استبقيناها من تراثنا العلمى والأدبى والفكرى والمعرفي، وأن نجعل من هذا النسيج المدمج الديباجة الحضارية التى نشترك بها فى عصرنا الحاضر.
-التعريب ضرورة لا يمكن لأحد أن ينكر أهميته، ولا يمكن لأحد أن يغفل الشروط اللازمة له؛ وأهم شرطين للتعريب هما: أن تتقن لغتك إتقانًا عظيمًا؛ لأنك إن لم تكن تتقنها فى مستوياتها الفصحى، وفى تجلياتها المختلفة، وفى دوائرها الإنسانية والعلمية، وفى كل مراحلها- لا تستطيع أن تزرع فى خلاياها شيئًا جديدًا، إن لم تكن على علم كافٍ بها.
- مشكلة تدريس العلوم باللغة العربية الحقيقية أن كثيرًا من المشتغلين بهذه العلوم لا يتقنون شرحها بلغة عربية بسيطة ومفهومة؛ عدم إتقان شرح العلوم الأجنبية والمصطلحات الغربية بلغة عربية ميسَّرة ومفهومة هو الذى يشوِّه صورة التعليم والتعريب لدينا فى جامعاتنا؛ لأن الطلاب يذهبون إلى أساتذتهم فيسمعون منهم نكرًا؛ يسمعون مصطلحات أجنبية مشوَّهة، ولا يجدون تعريفًا ولا شرحًا ولا تبسيطًا لها بلغة عربية سليمة؛ فتكون النتيجة بفقدهم إتقان اللغة الأجنبية من ناحية أخرى، وأمرُّ من ذلك عدم إتقان لغتهم العربية من ناحية أخرى؛ وبذلك تضيع عليهم فرصة التعريب الحقيقية فى التدريس.
- إذا امتلك الأستاذ لغته الفصحى وترجم بها كتابته، واستطاع أن يتحدث بها شفاهة بمستوى بسيط يفهمه الطلاب، استطاع حينئذٍ أن يقوم بأصفى عمليات التعريب تلقائيًّا، دون أن يتعمد ذلك أو يتجنبه؛ لأنها عملية ضرورية ملازمة.
- يقوم بالتعريب أيضًا فئة من الناس لا نعطيهم حقهم من التكريم والتبجيل، وهم المترجمون، وبخاصة المترجمون الفوريون، وقد اشتغلت فى بداية حياتى بهذه المهنة الشاقة العسيرة التى ينقسم فيها عقل الإنسان فيها إلى شطرين: شطر يستقبل اللغة التى يسمعها، وشطر يعمل فى الآن ذاته على أن ينقل ما استقبله إلى لغة عربية فصيحة وصحيحة ومفهومة تركيبًا ولغةً ودلالةً. عندما يستطيع الإنسان أن يمتلك هذه الموهبة فى الترجمة الفورية بكل المحافل السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والإنسانية-يكون حينئذ أنشط عنصر فى عملية التعريب.
-كثير من عمليات التعريب الناجحة بالتأمل الصحيح أجد أنها لم تحدث فى جلساتنا ولم تحدث فى المحافل ولا فى الأكاديميات، وإنما حدثت على ألسنة هؤلاء الشباب الموهوبين الذين استطاعوا أن يشقوا الشعرة نصفين: شعرة هذا العقل بحيث يشتغل نصفه للاستقبال ويشتغل نصفه الثانى للإرسال، ويرتجل للكلمة الجديدة التى يسمعها لأول مرة مقابلها فى لغته.
-أعتقد أن المترجم الذى يُوفَّق فى هذا العمل هو أعظم عنصر فعال فى عمليات التعريب، ونحن لا نعطيه حقه؛ بل نعطى الحق لهؤلاء الذين يتدارسون ويتفكرون ويتناقشون ويعقدون حلقات البحث ويراجعون ما قالوه بالأمس لكى يعيدوا النظر فيه اليوم حتى ينتهوا إلى صيغة؛ كل هذا التمحيص والفهم والمراجعة مطلوب، لكن الصف الأول من المعربين هم المترجمون، وعلينا أن نعطيهم حقهم من التقدير ومن الثناء.
-التعريب لا يمكن أبدًا أن يقتضى إهمال اللغة الأجنبية، على العكس؛ لن ننجح فى التعريب إلا بقدر ما نتمكن بعمق وإتقان وأصالة وإبداع من اللغتين معًا؛ لأننى ما زلت أؤمن أن من يقرأ بلغة واحدة كمن ينظر أمامه بعين واحدة، سيظل أعور، وأن من يقرأ بلغتين هو الذى تكتمل له الأداتان للنظر؛ العينان معًا.
-لا أتوقع ممن لا يتقن لغة أجنبية أن يبدع فهم لغته القومية، أو أن يستطيع إدراك أسرارها، ولعلنا جميعًا ندرك ذلك منذ كنا طلابًا فى مدارسنا ومعاهدنا الأولى؛ فنجد أن الأستاذ الذى تخرج من جامعة أجنبية أو غربية هو الذى يملأ وجداننا علمًا، وهو الذى يُشْبِع قلوبنا معرفة، وهو الذى يأتى لنا بالجديد. أما الأستاذ الذى يقتصر على قراءة تراثه القديم فقط فلا يكاد يفهمه، ولا يكاد أن يصل منه إلى شيء.