تمر اليوم الذكرى الـ159، على نجاح الخديوى إسماعيل في الحصول على فرمان من الدولة العثمانية عرف باسم "فرمان مصر" يقضى بانتقال ولاية مصر من الأب إلى الابن الأكبر، وهو ما مهد الطريق لـ محمد توفيق ابن الخديوى إسماعيل لتولي الحكم في مصر.
نص الفرمان على تغيير نظام الوراثة ليكون فى أكبر أنجال إسماعيل باشا بدلاً من أكبر الذكور فى أسرة محمد على، وزيادة عدد الجيش المصرى من 18 ألفًا إلى 30 ألف جندى، وإقرار حق مصر فى ضرب النقود، ومنح الرتب المدنية لغاية الرتبة الثانية، وقد بقى هذا الفرمان مرعيًا فى مصر كدستور حتى نهاية عام 1914 حين أعلنت الحماية البريطاني.
وترتب على قرار إعلان الحماية اسم الدولة إلى السلطنة المصرية، وتعتبر تاريخيا جزءا من الاحتلال البريطانى لمصر، وتنازل عباس حلمى الثانى عن أى دعاوى أو حقوق فى العرش نظيره، ويتولى الحكم عنه السلطان حسين كامل ابن الخديوى إسماعيل، وكانت تلك الخطوة قد أنهت السيادة الاسمية للعثمانيين على مصر.
ووفق ما ذكره المؤرخ عبد الرحمن الرافعى فى كتابه "عصر إسماعيل ج1"، عن علاقة إسماعيل بالدولة العثمانية وتعامله معها، فإن الخديوى جعل نصب عينيه منذ توليه الحكم، تحرير مصر من السيادة التركية التى فرضتها عليها معاهدة عام 1840، وفرمانات عام 1841م، ويؤخذ على ذلك الفرمان الذى سعى إسماعيل على استصداره أن طريقة توارث العرش ليست مسألة جوهرية تهم البلاد أو تعود بالنفع عليها، أو تمنحها مزايا استقلالية عن الدولة العثمانية، بالإضافة إلى أنها كلفت خزينة البلاد تضحية مالية كبيرة حيث اشترطت تركيا مقابل هذا التغيير زيادة الجزية السنوية من 400 ألف جنيه عثمانى إلى 750 ألف جنيه، أى ما يقارب الضعف وهى زيادة فادحة تحملتها مصر.
ووفقا لما جاء في كتاب "تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا" تأليف إلياس الأيوبى، أن حب (إسماعيل) لبلاده كان رائده في سعيه لتوريت الحكم لأبنائه، أكثر من كل عامل غيره، فكان هواه أن يخلفه على العرش إبراهيم حلمي ابنه من الأميرة جنانيار هانم، أعز زوجاته عليه، والتي سعت سعيًا محمودًا في سبيل نجاح مقاصده، ومع ذلك فإنه سعى لأكبر أولاده (محمد توفيق)، بالرغم من أنه لم يكن يحبه محبته لباقي أخوته، (فإسماعيل) إذًا، لأنه كان يكره أخاه وعمه من جهة، ولأنه كان، من جهة أخرى، وعلى الأخص، يحب بلاده، أقبل يسعى في الأستانة ليحمل أولي الشأن فيها على تغيير نظام الوراثة بمصر، وحصرها في ذريته دون باقي الأسرة المحمدية العلوية.
ولحسن طالعه، كان ميله إلى ذلك ونجاحه فيه يوافق هوى نفس عبد العزيز المكنون، فعبد العزيز، أيضًا، كان يشتهي أن يغير نظام الوراثة في أسرة عثمان؛ وهو أيضًا كان يتمنى أن يحصرها في ابنه يوسف عز الدين، وفي بكر أولاده، بعده، فبكر أولاده إلى الأبد، ولكنه لم يستطع بلوغ أمنيته، بالنسبة لقوة التقاليد، فكان يرغب، والحالة هذه، في نجاح (إسماعيل) في سعيه، ليكون ذلك سابقة، يبني هو على قاعدتها بناء مجهوداته.
على أن ذلك لم يمنعه من التظاهر بالرفض في بادئ الأمر لينال من مال (إسماعيل) وهداياه ما كان التغيير المطلوب به جديرًا؛ ولكي تكون الظواهر غرارة أكثر مما هي، فتبدو الصعوبات للساعي أكبر من حقيقتها، أوعز إلى بعض جرائد الأستانة بأن تكتب في الموانع القائمة دون تحقيق رغائب والي مصر وأن تبالغ في وصفها.
فانخدع (إسماعيل)، أو تخادع، إلى حد استئجار جرائد أخرى لتحبذ التغيير وتظهره أمام الملأ في مظهر العمل المفيد للبلاد، والذي لا مندوحة لها عنه، لتتقدم باطمئنان في معارج الفلاح والرقي والرخاء.
ولكنه، من جهة أخرى، فتح يده سخية في السر والجهر: فجرت خيرات النيل ذهبًا وفضة على ضفاف البوسفور، حتى لم تبق هناك ذات واحدة ممن يرجى في مساعيها تقديم وإنجاح للمسعى المصري، إلا ونالها من عطاياه وجوده الحاتمي ما جعلها تدأب على العمل له.
ولو أراد التاريخ حصر قيمة ومقدار كل ما صرف في تلك الأيام في الأستانة، وتعداد الأبواب التي صرف فيها، لأعياه الأمر وسقط دونه كليلًا؛ لأن المبالغ المصروفة تجاوزت عدة ملايين من الجنيهات، ومن البديهي أن (إسماعيل) لم يكن وحده في ذلك الصرف، فكما أنه كان يجود بالأموال والهدايا، من جهة؛ وتجود أمه بأضعاف أضعافها لتساعده على تحقيق مطمعه، كان أخوه وعمه، من جهة أخرى، يبذلان كل ما في وسعهما لإخفاق مسعاه، وتخييب أمانيه، لما في تحقيقها من الأضرار بمصلحتيهما، ولكنه تغلب في نهاية الأمر؛ ومقابل ما بذل، وما وعد ببذله، ونظير رفعه الجزية السنوية المفروضة على مصر من ثمانين ألف كيس إلى ١٥٠ ألفًا — أي من أربعمائة ألف جنيه مجيدي إلى سبعمائة وخمسين ألفًا، أصدر السلطان فرمانه القاضي بانتقال كرسي الولاية من متبوئ كرسيها إلى بكر أولاده، ومن هذا إلى بكر أبنائه أيضًا، وهلم جرًّا؛ وذلك في ١٧ مايو سنة ١٨٦٦ فقرئ هذا الفرمان بمصر باحتفال شائق، وهنأ رجال الدولة وأعيان الأمة (الأمير محمد توفيق) — وكان لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره — بمصير ولاية عهد الديار المصرية إليه، وكبرت منزلة (إسماعيل) في عيون الجميع، وشعر الكل بسكينة دخلت على نفوسهم، كأن الحاضر والمستقبل باتا آمنين.