1954 "الإسكندرية – مطوبس"
في الإسكندرية خريف عام 1954، كان كبار السميعة يلتفون حول عملاق من عمالقة دولة التلاوة يستمعون ويستمتعون بما تيسر من القرآن الكريم، ويطلبون منه المزيد خاصة حينما أبدع في تلاوة سورة آل عمران بأكثر من قراءة وإتقانه في الانتقال من مقام لآخر، فأبوا إلا أن يستزيدوا من الاستمتاع بالشيخ مصطفى إسماعيل في سهرة قرآنية امتدت حتى فجر اليوم التالى.
الشيخ مصطفى إسماعيل
في مركز مطوبِس شمال غرب محافظة كفر الشيخ الواقعة أقصى شمال مصر، وتحديدًا 15 مارس عام 1954، نفس الوقت تقريبًا الذي كان يحي فيه الشيخ مصطفى إسماعيل حفلات قرآنية في الإسكندرية، كان الحاج أحمد نعينع، أحد كبار التجار في المركز ورئيس مجلس إدارة جمعية قباني كفر الشيخ، في انتظار ولادة ابنه الثاني والذي قرر تسميته على اسمه "أحمد"، كعادة بعض أهل المركز.
نعينع والشيخ مصطفى إسماعيل
الطفل أحمد نعينع
في مطوبس .. قرر الحاج أحمد نعينع، أن يٌلحق ابنه "أحمد"، بكٌتاب القرية، ويهبه للقرآن الكريم وعمره لم يتعد الرابعة بعد، غير أن الطفل كان متيمًا بالاستماع للقرآن الكريم وترتيله وتجويده، ويروى نعينع في حوار سابق لـ "اليوم السابع"، هذه الحقبة من حياته قائلاً: "طوال عمرى لم أتخذ تلاوة القرآن الكريم حرفة أو مهنة بل هي هواية بدأت معى منذ طفولتى في بلدتى مدينة مطوبس بكفر الشيخ، حيث كنت أستمع لقارئ لدينا اسمه الشيخ أمين هلالى من علماء الأزهر، وكان صوته يجذبنى جدا، وكنت أقلده، وكنت قد التحقت بالكتاب وعمرى 3 سنوات، وحفظت أجزاء كثيرة من القرآن الكريم بالتلقى من شيخ الكٌتاب، وكان الكٌتاب يعلم القراءة والكتابة أيضًا".احتراف التلاوة
ليس هناك تاريخ أو وقت بعينه احترف فيه الشيخ أحمد نعينع تلاوة القرآن الكريم، هو نفسه لا يتذكر أول مرة يتلو فيها القرآن الكريم أمام الناس، فحبه للقرآن وتلاوته ولد وكبر معه، حتى أن أهل "مطوبس" كانوا يستوقفونه في الشارع ليتلو لهم ما تيسر من القرآن، كما أنه كان يقرأ في مسجد البلدة بين أذان وإقامة الصلوات، أو قرآن الجمعة في غياب الشيخ المكلف بقراءة السورة، كما أنه يتلو القرآن الكريم في حفلات المولد النبوى التي كان يحيها أهل البلدة طوال شهر المولد النبوى ربيع الأول، وحفلات الحجيج التي كانت تنظم قبل سفرهم لأداء فريضة الحج".نعينع طالباً
كلية طب الإسكندرية
في كلية الطب جامعة الإسكندرية، لم ينس نعينع عشقه لتلاوة القرآن الكريم، حتى أنه جمع بين دراسته "طب الأطفال" ودراسة علوم التجويد حتى أتقنه وأتقن القراءات السبع على يد الشيخ محمد فريد نعمان وزوجته الشيخة أم السعد "أشهر محفظة قرآن في الإسكندرية في ذلك الوقت ولوقت قريب أيضًا والتي تتلمذ على يدها وزوجها الكثير من مشاهير قراء القرآن الكريم.الشيخة أم السعد
أحمد مصطفى إسماعيل!
إذا ذٌكر الشيخ أحمد نعينع ذٌكر الشيخ مصطفى إسماعيل، الذى يعتبره "نعينع" أبًا روحيًا له وأستاذه ومعلمه، كما يٌجمع "السميعة" على أن "نعينع" أنجب تلاميذ الشيخ مصطفى إسماعيل، ويقول نعينع نفسه:"أستاذي وأنا اعتبر نفسى ابنه، وكنت أقول له يا "آبا".. فقد عشت معه في الإسكندرية حينما كنت أدرس في كلية الطب وكنت أظل طوال اليوم في فيلته الخاصة، وحينما كانت تكون لديه ليلة أذهب معه، وكنا نترجل سويا صباح كل يوم، وتعلمت منه تكنيك القراءة ولكن لم أقلده.من ضابط احتياط لطبيب وقارئ الرئاسة
في أواخر السبعينيات، كان الرئيس الراحل محمد أنور السادات يحضر احتفال القوات البحرية بعيدها السنوي، بينما يجلس ضابطًا صغيرًا يتلو ما تيسر من القرآن الكريم ليلفت انتباه الرئيس السادات بعذوبة صوته، ذلك الضابط هو الطبيب أحمد نعينع، الذى التحق مؤخرًا بالخدمة العسكرية ضابطًا احتياطيًا بالقوات البحرية، بعد تخرجه في كلية الطب، ولأن صوته كان مميزًا في تلاوة القرآن الكريم اختاره قادته ليكون قارئًا للاحتفالات الرسمية.
نعينع ضابط احتياط بالقوات البحرية
الدكتور نعينع يصافح الرئيس الراحل محمد أنور السادات
ويروى نعينع علاقته بالسادات قائلاً:"أول مرة أرى الرئيس محمد أنور السادات كنت ضابط احتياط، وقارئًا للحفلات الرسمية للقوات البحرية بالإسكندرية، وبعدها بأيام قليلة طلب منى شيخ الصيادين على زريق القراءة في عيد للصيادين وقال لى:"ولا يا أبو نعينع تعالى أقرأ وسأعطيك "غلق سمك"، وبالفعل ذهبت ولم يكن لديهم مقرًا فالتقى بهم الرئيس السادات في الاستراحة الخاصة به والتقيت بالرئيس السادات وقالى لى "برافو برافو ما شاء الله"، وقال لعثمان أحمد عثمان :" يا أبو عفان مصطفى إسماعيل صحى تانى" وكان ذلك في أوائل عام 1979، وفى المرة الثالثة في 18 مارس عام 1979 ، طلب منى الدكتور حمدي السيد وكان نقيبا للأطباء وقتها إحياء حفل "يوم الطبيب"، وذهبت بالفعل بحضور الرئيس السادات وضمنى بعدها طبيبا وقارئا بالرئاسة، مضيفا: "كنا فريق طبى متكامل الدكتور إبراهيم البطاطة والدكتور طه عبد العزيز ، كل فرد منا يطلق عليه طبيب خاص، ونعتن بمواعيد الأدوية الخاصة بالرئيس ونقيس له الضغط وهكذا"، وحينما كان يذهب الرئيس السادات للاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان في وادى الراحة بجنوب سيناء كنت أذهب معه ويوميا بعد صلاة العصر نجلس على "حصيرة" وأقرأ القرآن الكريم.
الدكتور أحمد أحمد نعينع
الأفندي الشيخ
الصورة الذهنية والراسخة في الفترة ما قبل الثمانينيات عن قراء القرآن الكريم كانت ثابتة إلى حد كبير ولا تخرج عن شيخ وقور يرتدى "الجبة والقفطان والكاكولا"، فكان من غير المألوف أن نرى قارئًا يرتدى "قميص وبنطلون" وربما بدلة كاملة، هذا ما حدث حينما التحق الطبيب أحمد أحمد نعينع بإذاعة القرآن الكريم عام 1979، الذى كان محل تندر بعض الشيء من عدد من "المشايخ"، كأول قارئ يرتدي الزي "الأفرنجي".
نعينع والشيخ مصطفى اسماعيل
قرار نعينع الالتحاق بالإذاعة كان من دافع حبه للاستمرار في تلاوة القرآن الكريم، بعدما فوجئ بمنعه من تلاوة القرآن الكريم في إحدى الاحتفالات حيث كانت تنقل الإذاعة الحفل ولا تنقل لأى قارئ غير المعتمدين بالإذاعة فذهب نعينع للشيخ مصطفى إسماعيل وكان ذلك في أواخر عام 1978 وعرض عليه ذلك فما كان إلا أن شجعه وقال له: "سأذهب معك وأقول لهم لو في حد أحسن منه سقطوه"، غير أنه توفي في ديسمبر 1978 قبل أن يلتحق نعينع بالإذاعة.
أجر الشيخ أحمد نعينع
في حواره السابق لـ "اليوم السابع"، تطرق نعينع لأجره من التلاوة، وكانت المفاجئة حينما قال: "لم أتقاض أجرًا عن تلاوة القرآن الكريم حتى التحاقى بالإذاعة في عام 1979 بفترة طويلة، فقد كنت ألبى رغبة أي شخص يطلب منى تلاوة القرآن الكريم في أي سهرة أو عزاء دون مقابل وأكون سعيد جدًا وأذهب إليه بسيارتى الخاصة أينما كان، لأن تلاوة القرآن بالنسبة لى هواية وليست مهنة وإلى الآن هي هواية وأنا ما زلت هاو ولست محترفًا.. وبدأت أطلب أجرا لكثرة الحفلات التي كنت أدعى إليها عقب التحاقى بالإذاعة".
غلاف أحد شرائط الشيخ نعنيع
قارئ الملوك والرؤساء.. من مسجد الحسين لاحتفالية الصيادين
في مسجد الحسين عام 1944.. كانت الإذاعة على أهبة الاستعداد لنقل احتفالية كبرى من مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، غير الأجواء بدت أكثر توترًا حيتما تأخر الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي الذى كان مقررًا أن يحي هذا الحفل، ولم تكن الأجواء لتتوتر بهذا الحد لو أن الملك فاروق لم يستمع للحفل، وإلا كان من الممكن أن يحيه أي قارئ آخر، لتلعب الصدفة دورها في هذا اليوم حينما رشح الشيخ محمد الصيفى الشيخ مصطفى إسماعيل لإحياء الحفل، وكان أن فتح الله عليه ونال إعجاب الملك فاروق الذى أصدر فرمانا ملكيا بتعيين الشيخ مصطفى إسماعيل قارئًا للقصر الملكى، ثم اختاره الرئيس الراحل محمد أنور السادات في الستينيات قارئًا للرئاسة واختاره ضمن الوفد الرسمى أثناء زيارته للقدس، ليصبح الشيخ مصطفى إسماعيل قارئ الملوك والرؤساء.
مع الملك الحسن الثاني
الشيخ أحمد نعينع مع الرئيس مأمون عبد القيوم رئيس جمهورية المالديف عام 2003
المرسي أبا العباس صيف 1981
في الإسكندرية وتحديدًا في مسجد أبو العباس المرسي، كان الشيخ أحمد نعينع يتلو قرآن فجر يوم 26 يوليو عام 1981 وتنقله الإذاعة على الهواء مباشرة، وفي نفس التوقيت ومن شرفة شقة على نيل الزمالك، كان الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب يستمع إلى قرآن الفجر، فإذا به يرفع سماعة التليفون ويتصل مسرعًا بمجدي العمروسي المستشار القانونى لشركة صوت الفن ليطلب منه معلومات عن قارئ الفجر ويطلب منه إحضاره لمنزله، ومن بعدها وظل نعينع يذهب لمنزل عبد الوهاب في الزمالك مساء كل خميس في سهرة يحضرها كبار المثقفين والموسيقيين في مصر من بينهم الموسيقار عمار الشريعى ، كمال الطويل، محمد الموجى، كلا يقدم ويستعرض مواهبه وكذلك كان يفعل نعينع، الذى قال عن علاقته بعبد الوهاب في هذه الفترة: "أذكر أننى حينما كنت أقرأ القرآن الكريم يقوم هو أحيانا مسرعا إلى البيانو ويكتب شيئًا ثم يقول: "أنت قلت حاجة عفوية وأنا سجلتها"، والحقيقة أننى تعلمت منه التلاوة بهدوء ورفع الصوت عند اللزوم فقط".
القاهرة الآن..
يتربع الآن القارئ الطبيب أحمد أحمد نعينع على عرش دولة التلاوة، بمدرسته الخاصة التي أسسها رغم تأثره وتتلمذه على يد الشيخ مصطفى إسماعيل، يحبه الصغير والكبير، لا تكاد تنظر إليه وهو يتلو القرآن الكريم إلا وتتذكر العملاق الشيخ مصطفى إسماعيل، يؤمن بأن التلاوة والأحكام السليمة فقط هي ما تٌحلي الصوت، وأنه حينما تكون الأحكام سليمة تتنزل الملائكة فتخشى المكان الرحمة والسكينة، فيلاقى القبول بين المستمعين.
الدكتور أحمد نعنيع
الدكتور نعينع مع الشيخ محمد متولي الشعراوي