قرر زعماء الشعب بقيادة عمر مكرم خلع خورشيد باشا والى مصر، وتنصيب محمد على بدلا منه يوم 13 مايو 1805، وذهب وفد منهم إلى القلعة لإبلاغ «خورشيد»، فأجابهم: «إنى مولى من طرف السلطان فلا أعزل بأمر من الفلاحين، ولا أنزل من القلعة إلا بأمر من السلطنة»، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من «تاريخ الحركة القومية، وتطور نظام الحكم فى مصر».
أشعل رفض «خورشيد باشا» الثورة ضده، وكان عمر مكرم نقيب الأشراف قائدها.. يذكر «الجبرتى» فى موسوعته «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»: «اجتهد السيد عمر أفندى النقيب، وحرض الناس على الاجتماع والاستعداد، وركب هو والمشايخ إلى بيت محمد على باشا ومعهم الكثير من المشايخ والعامة، والكل بالأسلحة والعصى والنبابيت، ولازموا السهر بالليل فى الشارع والحارات، ويسرحون أحزابا وطوائف ومعهم المشاعل، ويطوفون بالجهات والنواحى، وجهات السور، ثم اتفقوا على محاصرة القلعة، فأرسل محمد على باشا عساكره فى جهات الرميلة والحطابة والطرق النفاذة، مثل، باب القرافة، والحصرية، وطريق الصليبة، وناحية بيت آفبردى، وجلسوا بالمحمودية، والسلطان حسن، وعملوا متاريس فى تلك الجهات، ومنعوا من يطلع ومن ينزل من القلعة، وأغلق أهل القلعة الأبواب، ووقفوا على الأسوار يبكت بعضهم بعضا بالكلام، ويترامون بالبنادق، وصعدوا على منارة السلطان حسن يرمون منها إلى القلعة».
يذكر «الرافعى» أن القتال استمر متراسلا بين الشعب وخورشيد باشا إلى أوائل يوليو 1805، وفى غضون ذلك أشار محمد على لعمر مكرم أن يأمر رجاله بنقل مدفع كبير من طابية قنطرة الليمون، وتركيبه بالحبل لضرب أسوار القلعة كى يكون الضرب أشد أثرا من المدافع التى كان الثوار يستعملونها فى القتال، فجمع عمر مكرم رجاله وجلب الأبقار لجر هذا المدفع الثقيل ونقلوه من مكانه وأخرجوه من باب البرقية، وركبوه عند باب الوزير، واستمروا فى جره يومين كاملين، وبعد تركيبه أخذ القواد يضربون به القلعة، واستمر الضرب من الجانبين شديدا متراسلا، وحاول بعض جنود خورشيد باشا أن يهجموا على المدفع لتعطيله فردهم الثوار وضربوهم وقتلوا كبيرهم، وكانت مدافع القلعة تصوب قنابلها على حى الأزهر وبيت محمد على وبيت حسن باشا.
يؤكد الرافعى: «ظلت الحرب بين الشعب و«خورشيد باشا» إلى أن جاء إلى القاهرة من الآستانة، 9 يوليو، مثل هذا اليوم، 1805، رسول يحمل فرمانا يتضمن الخطاب لمحمد على باشا بتثبيته واليا على مصر «حيث رضى بذلك العلماء والرعية، وأن خورشيد باشا معزول عن ولاية مصر»، فبطل الضرب من القلعة، وأبطل الثوار الضرب مع استمرار الحصار وبقاء المتاريس، ومرابطة الثوار بالجبل إلى أن أذعن خورشيد باشا يوم الاثنين 5 أغسطس سنة 1805، ونزل منها ورحل عن البلاد فكان آخر وال عثمانى حكم مصر بإرادة الآستانة وأوامرها».
يصف الجبرتى، وقائع يوم وصول فرمان تولى محمد على، قائلا: «اجتمع الناس، وطوائف العامة، وخرجوا من آخر الليل وهم بالأسلحة والعدد والطبول إلى خارج باب النصر، ووقفوا بالشوارع والسقائف للفرجة، وكذلك النساء والصبيان، وازدحموا ازدحاما زائدا، ووصل الأغا المذكور «حامل الفرمان»، وصحبه سلحدار الوزير إلى زاوية دمرداش، ونزلا هناك وعملا لهما إسماعيل الطبجى الفطور فأكلاه وشربا القهوة وركبا، وانجرت الطوائف والغوغاء من العامة وهم يضربون بالبنادق والقرابين والمدافع من أعلى سور باب النصر والفتوح، واستمر مرورهم نحو ثلاث ساعات، وخرج كتخدا محمد على وأكابر الأرنؤد وطائفة من العسكر كبيرة، وكثير من الفقهاء العاملين رؤوس العصب، وأهالى بولاق، ومصر القديمة، والنواحى والجهات، مثل أهل باب الشعرية والحسينية، والعطوف وخط الخليفة، والقرافتين، والرميلة، والطابة والحبالة وكبيرهم حجاج الخضرى، وبيده سيف مسلول، وكذلك ابن شمعة شيخ الجزارين وخلافه، ومعم طبول وزمور، والمدافع والقنابر والبنيات نازلة من القلعة، فلم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى الأزبكية، فنزلوا بيت محمد على باشا، وحضر المشايخ والأعيان، وقرأوا المرسوم الذى معه، ومضمونه: «الخطاب لمحمد على باشا والى جدة سابقا، ووالى مصر حالا، حيث رضى بذلك العلماء والرعية، وأن أحمد خورشيد باشا معزول عن مصر، ويتوجه إلى الإسكندرية بالإعزاز والإكرام، حتى يأتيه الأمر بالتوجه إلى بعض الولايات».
لماذا تأخرت السلطة العثمانية فى إصدار فرمان تولى محمد على إلى 9 يوليو 1805، بالرغم من قرار زعماء الشعب يوم 13 مايو 1805؟..ولماذا تلكأ خورشيد باشا فى التنفيذ حتى 5 أغسطس 1805؟.. يجيب الرافعى: «كانت السياسة التركية مترددة غير مستقرة، ترقب الأحوال لتتبع الخطة التى تراها أكفل بمصلحتها وأوفق لبسط نفوذها فى مصر، ولم تكن خالصة النية نحو محمد على باشا، بل كانت ترميه بعين البغض، وحسبه جرما فى نظرها أنه لم يكن من الولاة الذين ترسلهم كل عام إلى مصر وتوليهم وتعزلهم كما تشاء».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة