مضت فرقة من قوات الحملة الفرنسية لاحتلال مديريتى دمياط والمنصورة، حيث لم يكن اسم الدقهلية شائعا فى ذلك الوقت، وذلك بعد أن عين نابليون بونابرت، الجنرال «فيال» قومندانا للمديريتين فى أوائل أغسطس 1798، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية»، مضيفا: قصد «فيال» إلى المنصورة وترك حامية تحتلها، ثم تابع سيره إلى دمياط ليجعلها مقرا لفرقته، فاحتلها واحتل عزبة البرج».
يؤكد «الرافعى»، أن أهالى المنصورة والبلاد المجاورة اتفقوا على الفتك بالجنود الفرنسيين، وبينما كانوا فى معسكرهم يوم 10 أغسطس 1798 دخلت المدينة جموع كثيرة من البلاد المجاورة، وكان يوم سوق فاختلطوا بأهل المدينة، وهاجموا الجند، ونادت المدينة كلها بالثورة رجالا ونساء، وكان النساء يحرضن أزواجهن على أن يثوروا، ولما شعر الجنود بالخطر امتنعوا فى معسكرهم فحاصره الثائرون، وأشعلوا فيه النار، فاضطر الجنود إلى إخلائه هاربين، وانحدروا إلى السفن قاصدين الفرار، ولكن الجموع تكاثرت عليهم وأبى رجال السفن أن يحملوهم، فالتجأوا إلى البر، وقصدوا إلى دمياط، ولكن الثوار أخذوا عليهم الطريق ثم قتلوهم عن آخرهم.
ينقل «الرافعى» عن الجزء الثالث من «التاريخ العلمى والحربى للحملة الفرنسية» تأليف الكاتب الفرنسى «ريبو»: «كان من بين الناجين امرأة أحد الضباط وابنتها فأبقى عليهما الثوار ولم يمسوهما بسوء، واشترى الفتاة شيخ العرب «أبوقورة»، وتزوج بها فلبثت عنده حتى مات عنها سنة 1808 فى عهد محمد على باشا، وبقيت حافظة عهده قائمة على تربية أولادها منه بعد وفاته، ويذكر «الرافعى» أن «كلوت بك» أيد هذه الواقعة فى كتابه «لمحة عامة إلى مصر- الجزء الثانى» مع اختلاف فى بعض وقائعها، فهو يقول إنها حصلت عندما شرع الفرنسيون فى الجلاء عن مصر، لكن الرافعى يؤكد: «لم تحصل وقائع فى المنصورة عند جلاء الفرنسيين».
يضيف «الرافعى»، أن «كلوت بك» حقق وشاهد بنفسه، وقال إنه سمع بنبأ هذه الواقعة حينما كان كبير أطباء الجيش المصرى فى عهد محمد على باشا، فزار دار أبى قورة فى «ميت العامل» سنة 1834، أى بعد أكثر من خمسة وثلاثين سنة من الواقعة، ويصف الدار قائلا: «قصر فسيح قائم بالقرب من مساكن العرب»، ويذكر أنه قابل زوجة أبى قورة وولدها.. يضيف: «أحسن ابنها لقائى وأكرم مثواى، ولما عرف أننى فرنسى الجنس قال لى إن والدته فرنسية، فكاشفته عن رغبتى فى لقائها، وذريعتى إلى ذلك مهنة الطب التى أقوم بها، فلما بلغت خدرها تلقتنى محيية باللغة الفرنسية، وتبينت أنها إيطالية الجنس، وعلمت منها أنها ولدت بمدينة البندقية، ووالدها كان تاجر قبعات اسمه «بارتولى»، ووالدتها تسمى مرجريت، وأن اسمها «جوليا»، وأن العربان سبوها وهى خارجة من المنصورة إذا أركبوها جوادا، وانطلقوا حتى بلغوا بها فى المساء دارا كبيرة، التقت فيها برجل يغطيه من الرأس إلى القدمين حرام أبيض، وبذل لها هذا الرجل من مظاهر العطف والميل ما لا يوصف، وجردها من ثيابها الأوروبية وألبسها ثوبا شرقيا فضفاضا، ثم سلمها من الحلى والجواهر ما قيمته ستمائة كيس، أى ما يعادل مائة ألف فرنك تقريبا، وجعل فى خدمتها عددا كبيرا من العبيد والجوارى».
يذكر «كلوت بك» أن هذا الرجل هو الزعيم «أبو قورة» وكان مشهودا بالشوكة والجاه الطويل، ولكن هذا الالتفات والعطف كانا يضجرانها، فكانت لا تكف عن البكاء وتعرب بالقول والإشارة والصياح عن رغبتها فى العودة إلى ذويها، ولم ينقض أحد عشر شهرا حتى رزقت غلاما، فهدأ شعور الأمومة نحو وليدها ثائرة التذمر والاستياء ولطف من أسرها فى هذا المكان فلم يسعها إلا احتماله والرضا به، ولما مات زوجها وكانت توليه الحب الصادق وتعيش معه فى بحبوحة الهناء والنعيم، أكرهت على التزوج بأخيه، فلم تجد منه ما كانت تلقاه فى أخيه من حسن الرعاية وجميل العطف.. يؤكد «كلوت بك» أن «أبى قورة» كان يقاوم سلطة المماليك مدة حكمهم، وكانت له السيادة فى إقليم المنصورة وقتئذ، ويملك 44 قرية وآلاف من الجمال وأغناما لا عدد لها، وأكثر من خمسمائة عبد وجارية من الأرقاء.
يذكر الرافعى، أن مجىء الفرنسيين إلى المنصورة أشعل نار الثورة والهياج فى البلاد المجاورة، وكادت الثورة تستفحل لولا وصول الجنرال «دوجا» الذى عينه نابليون قومندانا لمديرية المنصورة، ووصل برجاله جنوبى المنصورة يومى 17 و18 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1798، وتوقع الأهالى أن يكون هناك انتقاما شديدا، فكتب الأعيان رسالة إلى ديوان القاهرة يبرؤن من الاعتداء على الجنود وينسبونه إلى الفلاحين والأعراب الذين اقتحموا المدينة، وذهب قاضى المنصورة خصيصا إلى القاهرة ليدافع عن مسلك سكان المدينة، غير أن نابليون كتب إلى «دوجا» يطالبه بعقاب الأهالى عقابا شديدا، ويأمره بقتل تسعة أو عشرة من أعيانها.