أصيب محمد على باشا بمرض «الدوسنتاريا الحادة»، فتوجه إلى جزيرة مالطا للمثول فى الحجر الصحى، حسبما يذكر وزيره ومستشاره نوبار باشا فى مذكراته، الذى كان بنفس الوقت يرافق إبراهيم باشا ابن محمد على فى رحلته للعلاج أيضا إلى إيطاليا، وتلقى أثناء ذلك أنباء مرض «الباشا الكبير»، ويذكر: «أضافت الأنباء أنه مع استفحال المرض، لجأ الأطباء إلى دواء عبارة عن محلول نترات الفضة، التى نجحت فى وقف المرض لكنها وبسبب مضاعفاتها نالت من قدراته العقلية التى اضطربت».
توجه محمد على إلى نابولى بإيطاليا سنة 1848 بعد رفع الحجر الصحى عنه فى مالطا، وهناك قابل ابنه إبراهيم، يتذكر نوبار: «كانت نظرات إبراهيم لوالده كلها قلق وحيرة، فلم يكن من الممكن أن أقول إن محمد على فقد عقله تماما، لأنه فى لحظات ما، كان يدرك تماما الحالة التى هو عليها، ويراقب نفسه، فما أن يشعر بأنه سيدخل فى نوبة هذيان يختلى بنفسه فى عزلة تامة، محاولا بكل قوة أن يستعيد تسلسل أفكاره، وسواء كان يستطيع هذا أم لا، إلا أن هيئته ومظهره لم يتغيرا، كان على ما هو عليه منذ أن عرفته محتفظا بهيبته الكبيرة، وبالقدرة الفائقة على أن يظل أنيقا ونظيفا إلى حد التبلور داخل هذه الأناقة والنظافة، كانت عيناه دائما متيقظتين ونشطتين، يجلس وركبتاه نصف مثبتين، ودائما خنجره فى متناول يده».
بعد العودة إلى القاهرة فى إبريل 1848 بدأت المشكلات، يذكرها نوبار قائلا: «لم يكن فى استطاعتنا إعلان جنون محمد على، ولا الاعتراف بسلامة قواه العقلية، لذلك قررنا عدم تغيير أى شىء فى سير الأمور من الناحية الشكلية، ولجأ النظار ورؤساء الإدارات إلى إبراهيم لتلقى الأوامر أوعرض مقترحاتهم عليه، ورفض إبراهيم فكرة تكوين مجلس وصاية برئاسته، كما رفض قبول منصب الحاكم العام فى مصر دون ولاية، وفى 13 يونيو 1848 صدر فرمان عثمانى بمنحه الولاية فى حياة أبيه».
فى 10 نوفمبر 1848 توفى إبراهيم فى حياة والده، يذكر نوبار: «عندما أخبروا محمد على بوفاة ابنه، رد: كنت أعرف، لقد حبسنى، كان قاسيا معى، كما كان مع الجميع، لقد عاقبه الله وأماته، لكنى أجد نفسى لكونى أباه من الواجب على أن أترحم عليه، له الله».. يؤكد نوبار أن محمد على عاش بعد هذه الكلمات تطارده دون هوادة فكرة أنه مازال محبوسا، يضيف: «كنت فى سراية شبرا يوم 28 نوفمبر 1848 حين أتاه حفيده عباس ليقبل يده قبل سفره إلى القسطنطينية للحصول على فرمان الولاية، فقال له الجد: لقد لعنت إبراهيم، لأنه حبسنى ولذا قبض الله روحه، فلا تتصرف نحوى مثله، إذا كنت تريد ألا ألعنك أنت أيضا، فطمأنه عباس وقبل يده مرة أخرى قائلا: أنت سيدنا وستظل كذلك دائما»، ويذكر نوبار، أن أحد المماليك المكلف بحراسة غرفة محمد على، قال إنه كان يتخيل نفسه فى أيامه الأخيرة وهو على رأس جيشه، وأحيانا وهو يدحر جنود القيصر من أسوار القسطنطينية، وأحيانا أخرى وهو يقوم بإجلاس لويس على العرش».
يضيف «نوبار»: «بعد وفاة إبراهيم، كان أبوه كلما أفاق من غفلته الذهنية المستمرة، يطوف شوارع القاهرة فى حراسة مماليكه وسط جموع الناس، التى تنظر إليه باحترام، ويرون فيه أحد المجاذيب، كانت الناس تقول إنه قبل رحيل إبراهيم بوقت كبير إلى القسطنطينية لطلب الولاية، رأى محمد على رؤية عن سفر ابنه وولايته وعودته ثم وفاته».
هكذا مضت أيام محمد على الأخيرة، حتى طرق الموت بابه فى 2 أغسطس، مثل هذا اليوم 1849، ونقل جثمانه إلى القاهرة، وفى 4 أغسطس وضع نعشه فى مسجد القلعة الكبير، حيث حدد هو قبره.. يذكر الدكتور محمد صبرى السوربونى فى كتابه «الإمبراطورية المصرية فى عهد محمد على والمسألة الشرقية»، أنه بتاريخ 5 أغسطس 1849 كتب القنصل الفرنسى تقريرا جاء فيه:«فور انتشار شائعة وفاة محمد على فى الإسكندرية، أغلقت المحال التجارية والوكالات أبوابها تلقائيا، دون أى اتفاق مسبق، خصوصا فى الحى الإفرنجى، كما نكست كل القنصليات راياتها، وسار كل سكان الإسكندرية خلف نعشه دون تفرقة فى الدين أوالجنسية، وبدت مظاهر الحزن والحداد الجماعى مصاحبة للجنازة، فى النوافذ وعلى أبواب البيوت وفى جميع الشوارع، وبالتاريخ ذاته، كتب قنصل بريطانيا العام: «يشرفنى أن أخبر سعادتكم بأن القبر قد أغلق على جثمان الباشا العجوز محمد على، لقد توفى الباشا ظهر 2 الجارى فى الإسكندرية، وهو فى سن متقدمة، 80 سنة، لأنه ولد فى نفس سنة ميلاد نابليون، وفى الإسكندرية، سار خلف نعشه كل كبار الموظفين المسلمين والهيئة القنصلية وأعيان التجار والسكان من قصره، حتى ترعة المحمودية ومنها إلى القاهرة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة