أتذكر جيدًا نصائح أحد الأطباء النفسيين ممن شكيت لهم همى في بداية حياتي التي كانت مليئة بالتحديات والضغوط ولا تزال، تحديات إثبات الذات، تحديات مواجهة الصعاب، واقتحام سوق العمل، عثرات كثيرة إحباطات، فقدان للأمل، يلحقه زيادة بالوزن اكتئاب ما بعد زيادة الوزن، محاولات لتخفيض الوزن، فشل في تخفيض الوزن يلحقه اكتئاب يزيد الطين بلة.
وما زاد من اكتئابي هو كونى شخصًا يحمل أعباء من حوله ويفرد لهم مساحة كبيرة من حياته، شخص يغوص في الحب طالما سلم قلبه لشريكه وبالتالي يدفع ثمن هذا "الغُطس" أضعاف مضاعفة فالسقوط في الحب بلا محددات لشكل ومستقبل أي علاقة كمن غطس في أعماق البحر وأصابه سكر الماء فمات من فرط النشوة.
بالعودة لنصائح الطبيب النفسي الذي أعتقد أنه يجب أن أتقاسمها مع شيرين عبد الوهاب، أحضر الطبيب ورقة بيضاء ورسم بها دائرة كتب عليها اسمي وسألني بعدها عن أسماء المحيطين بي ومدي قربهم أو بعدهم من تلك الدائرة، وهل دوائرهم التي تحمل اسمهم تتماس مع حدود دائرتي أم تتقابل في مساحة ما أم تتطابق مع دائرتي، وحقيقة اكتشفت أن دوائر من حولي إن لم تتطابق مع دائرتي وتكبس على نفسي، فهي تأخذ مساحة تتقاطع فيها مع دائرتي لدرجة خانقة فالمساحة المتبقية لا تكفيني.
وكان أول قرار وجهني طبيبي لاتخاذه هو إبعاد دوائر من حولي بمشاكلهم ومسئولياتهم وبتفاصيلهم عن دائرتي بالكامل، مؤكدًا أن من له حق التماس بين دائرتي ودائرته هم فقط أهلي هذا التماس لا يعنى الإهمال أو التجاهل ولكن بقدر يضمن مساحتي وفى نفس الوقت حقوهم على، أما شريكتي في الحياة فلها الحق في تقاطع دائرتها مع دائرتي في مساحة لا تزيد على اللازم فتصبح عبئا ولا تقل عن اللازم يصبح تجاهل، أما أكثر من ذلك فستكون علاقة سامة مؤذية للطرف الأكثر لطفا والأكثر حنانا والأكرم قلبا.. ربما يشعر القارئ أن الأمر مجرد دوائر وشيء نظري ولكن عمليا هو ألا تعطي من حولك مساحة ليست من حقهم، فتقتطع من مساحتك الشخصية وتزيد من سعادتهم علي حساب تعاستك وأن خطوات الحب لابد أن تكون محسوبة والتأثر بمن حولك، خصوصا التأثير السلبي يجب أن يكون هامشيا لأقصى درجة.
تابعت بعناية حفل شيرين عبد الوهاب، في قرطاج وإطلالتها، وبعكس ما يراه البعض أن ظهورها بوزن زائد دليل ضعف، أجده العكس تماما، فهو طوق نجاة، ودليل قوة لا يملكها الكثيرون، تحدى الذات والسعى للعودة بعد ثُبات اسمته هي موت، بالفعل هو إعادة حياة، إعادة حياة لمطربة تعى حجم جمهورها جيدًا وتدرك أن وقفتها على المسرح وغلق اذانها تجاه إي انتقاد سلبي، هو رسالة لكثير من النساء ممن يقفن أو مررن بنفس ما عانت منه شيرين عبد الوهاب، رسالة آمل في غدا أفضل، رسالة حب ودعم وتحدى للنفس.
شيرين عبد الوهاب وقفت على المسرح، بكل أريحية تتمايل وتتراقص وتطرب وتسلطن ولها كل الحق أن تعود بالشكل الذي تريده، ولها كل الحق في عيش تجربتها كاملة تتعثر وتقف من جديد، يزيد وزنها ويقل، كل منا له الحق في عيش تجربته كاملها بانهيارها وإنجازاتها بحلوها ومرها، وليس من حق أحد أن يفرض على شيرين كيف تعود وبما تظهر وما ترتدي، فالتنميط والقولبة آفة المحبين آن الآوان أن نتقبل بعضنا البعض بكل تغيراتنا بسقطاتنا ونجاحتنا بوزننا الزائد أو بنحافتنا بلون بشرتنا بمرضنا، بعفويتنا وبتلقائيتنا فهي أشياء يجب الحفاظ عليها وإلا تحولنا إلى كومة من البلاستيك عرائس مثل باربي جميلة تخطف العين لكنها بلا روح أتركوا ارواحنا في سلام، ولا تضيقوا الخناق علي شيرين ومن في نفس موقفها دعوا الحياة تعلمنا ولا تستسهلوا أكل لحوم بعضكم البعض.
أتذكر شيرين جيدًا عندما حاورتها في مراكش بالمغرب، تفاجأت من كونها لا تزال تتمتع بروح الطفلة وشقاوة الصبية وخفة دم وتلقائية وعفوية قلما ما تجدها في نجمة، فأغلب النجمات يتركن طبيعتهن مع أول سلم النجومية ويتصنعن للحفاظ على صورة النجم البراقة الخاطفة للعيون، إلا هى كنت أجلس أمامها وأتعجب من صراحتها وإجابتها الحاضرة وثقتها في نفسها، وضحكتها الرنانة التي كانت تجلجل، لو لى نصيحة استطيع أن اوجهها لشيرين هي أن تبقى على ملامح شخصيتها بعفويتها كما هى فالشخصية الصادقة هى الباقية وأن تنتبه لدوائرها جيدًا ولا تمنح المساحة في حياتها إلا لم يستحقونها عن جدارة.