فى كل مرة كنا نلتقى ولو صدفة، أشعر بالامتنان، ليس لشخصه اللطيف والمرحب أو لروحه الصافية الرائقة، ولكن لسينماه الممتعة، فهو واحد ممن منحونا متعة المشاهدة، وكثير من الأفلام التى لا تنسى، والمشاهد المحفورة فى ذاكرتنا ووجداننا، وكثير من «الإفيهات واللزمات» التى لا نزال نستخدمها ونرددها فى الكثير من المواقف الحياتية.
كلما شاهدت واحدا من أفلامه، اكتشف فيها شيئا جديدا، نفس المتعة لم تتغير رغم مرور السنوات وتعدد المشاهدات، المخرج على عبدالخالق، الذى لم تتح الفرصة يوما ما للتعبير عن حبى وامتنانى لشخصه وتجربته السينمائية الثرية والممتعة.
يصعب على أن أراه فى فراش المرض، ذهبت إليه وأنا محملة بالكثير من المشاعر التى أرغب فى التعبير عنها، ولكنه فاجأنى بعد أن انتهى من الصلاة، بنفس الابتسامة الهادئة والرائقة، يتحدث بحيوية ويروى تفاصيل عايشها وعاصرها، ويطرح تساؤلات عن المهرجانات السينمائية المقبلة، جلست بجواره وزائرين آخرين نستمع بانتباه شديد لكل ما يقوله بذهن يقظ، ولكن طوال وقت الزيارة، لم تفارق الابتسامة وجهى وأنا أتأمل تلك القوة فى مواجهة محنة المرض، والرضا المرسوم على ملامحه، وأقول لنفسى «إنه على عبدالخالق القادر على منحنا المتعة أيا كانت الظروف».
على عبدالخالق ليس مجرد اسم فى تاريخ السينما المصرية، بل هو واحد من المخرجين أصحاب البصمات، قدم سينما تشبهه، لا تحمل تعاليا على الجمهور، وبعيدة عن الذهنية وطرح التساؤلات، ولكنها فى الوقت نفسه تحمل تشريحا للمجتمع، وتقدم نماذج حية يتصارع كل منها لإثبات وجهة نظره.. الخرافة أم الوعى والفلسفة «البيضة والحجر، وعتبة الستات»، العلم والدين «جرى الوحوش»، الوطنية والخيانة «بئر الخيانة، وإعدام ميت»، الصورة التى نرغب فى تصديرها للآخرين، والوجه الآخر الذى يملكه كل منا «العار»، عدم العدالة المجتمعية وقهر الظروف، الذى قد يحول متخصص فى الكيمياء لـ «صانع مخدرات» «الكيف».
تلك المفاهيم وثنائيات كثيرة قدمها المخرج المبدع والمخضرم على عبدالخالق فى سينماه، كشف وشرح فيها التناقضات التى نحيا فى ظلها، أو تعشش داخل رؤوسنا وأرواحنا، بسينما حقيقية حاضرة طوال الوقت ونستدعيها متى شئنا، لذلك وجب التعبير له عن مدى حبنا وتقديرنا لواحد من أهم صناع السينما الممتعة، صاحب «أبكى أنزف أموت وتعيشى يا ضحكة مصر».. واحدة من أجمل ما تغنى به فيلمه «أغنية على الممر».
أيضا هو واحد من أهم المخرجين، الذين استطاعوا أن يجمعوا أكثر من نجم فى أعمالهم، وأدارهم بحرفية ومهارة.
بداية واعدة.. وتحولات مدروسة.. على عبدالخالق تخرج فى المعهد العالى للسينما، فى توقيت وظرف سياسى مربك عام 1966، حيث كان يعمل مساعدا للإخراج، ولكن بعدما وقعت هزيمة يونيو، وجد نفسه فى نفس الخندق مع العديد من زملائه وأصدقائه السينمائيين، يتساءلون عما حدث، ولكنهم لم يتوقفوا، بل قرروا تشكيل جبهة دفاع وطنية من خلال الفن، وقدم العديد من الأفلام الوثائقية، منها «أنشودة الوداع»، و«السويس مدينتى»، وهى الأفلام التى حصدت العديد من الجوائز المحلية والدولية.
فى هذه الفترة، كان عبدالخالق يملك هو وأصدقاؤه من السينمائيين أصحاب مدرسة الواقعية الجديد، العديد من الأفكار والأحلام، حيث كانوا يرغبون فى صناعة سينما حقيقية مهمتها كشف الواقع وطرح التساؤلات، فجاء فيلمه الروائى الطويل الأول الملهم «أغنية على الممر»، عام 1972، عن مسرحية بنفس الاسم للأديب على سالم، وحقق الفيلم نجاحا فنيا هائلا، وحصل على الجائزة الثانية من «مهرجان كارلو فيفارى السينمائى الدولى»، وجائزة من مهرجان «طشقند» السينمائى فى نهاية فترة السبعينيات، ومن بعدها قدم «مسافر بلا طريق» 1978، و«الأبالسة» 1980.
بعد تلك الفترة، حدث تحول فى مشوار مخرجنا الكبير، والتقى بشريكه الكاتب محمود أبوزيد، وشكلا معا ثنائيا سينمائيا، قدم لنا العديد من التجارب المهمة فنيا وتجاريا، «العار» 1982، و«الكيف» 1985، و«جرى الوحوش 1987، و«البيضة والحجر» 1990، وهى الأفلام التى لا نزال نعيش فى سحرها وتركيبة شخصياتها المميزة ويصعب تكرارها، وجمال أداء نجومها ومنهم «نور الشريف، ومحمود عبدالعزيز، وأحمد زكى، ويحيى الفخرانى»، الذين قدمهم على عبدالخالق فى صورة غير نمطية، ومغايرة لأى توقعات.
من منا يستطيع أن ينسى شخصية كمال «جسدها نور الشريف» فى فيلم «العار»، أو محمود عبدالعزيز فى «العار والكيف»، وأحمد زكى «الدكتور مستطاع»، أو أنور فى «4 فى مهمة رسمية»، وأيضا نورا فى دور «روقة»، والفنانة نبيلة عبيد فى العديد من الأعمال المهمة، التى قدمتها مع مخرجنا الكبير، منها «شادر السمك، وعتبة الستات»، محمود مرسى وأحمد مرعى وصلاح السعدنى وصلاح قابيل ومحمود ياسين فى «أغنية على الممر».
كل ذلك بالإضافة إلى الكثير من الإفيهات والجمل واللزمات الكوميدية منها «لو حلال أدينا بنشربه، لو حرام أدينا بنحرقه»، و«الملاحة… الملاحة… وحبيبتى ملو الطراحة… حسرة علينا يا حسرة علينا»، و«حق روقة ولا مش حقها»، و«بحبك يا ستمونى مهما الناس لامونى» وغيرها.
47 عملا قدمها مخرجنا القدير، خلال مشواره الفنى الذى امتد لـ37 عاما منذ 1972 حتى 2009 قبل اعتزاله، حملت معها التنوع والمتعة.
العار
البيضة والحجر
علي عبد الخالق
إعدام ميت
بئر الخيانة
علا الشافعي