حالة من الترقب الحذر تسيطر على الاقتصاد العالمى، بالتزامن مع مؤشرات التضخم العالمى، التى مازالت تحلق خارج توقعات البنوك المركزية الكبرى، برغم حالة الهدوء المؤقت التى تعكسها بعض مؤشرات أسعار لدى بعض الدول، فيما تسعى البنوك المركزية الكبرى لوضع معدلات التضخم تحت السيطرة. خرجت بيانات معدلات التضخم فى الولايات المتحدة الأمريكية لشهر أغسطس الماضى بإعلان ارتفاع مفاجئ على أساس شهرى، مدفوعة بارتفاع فى تكاليف الإيجار والطعام رغم تراجع أسعار البنزين، وهو ما اعتبره بعض المراقبين مبررا كافيا بالنسبة لمجلس الاحتياطى الاتحادى لإعلان زيادة كبيرة أخرى فى أسعار الفائدة فى اجتماعه المقبل، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين 0.1% الشهر الماضى وفقا لوزارة العمل.
بهذا المعدل فقد خالف معدل التضخم المعلن لشهر أغسطس توقعات خبراء الاقتصاد، التى رجحت تراجع مؤشر أسعار المستهلكين 0.1%، ويظهر تطور البيانات صعود أسعار المستهلكين 8.3% فى الاثنى عشر شهرا حتى أغسطس الماضى، ويعنى ذلك تباطؤا فى المؤشر الذى ارتفع 8.5% فى يوليو، وكان المؤشر السنوى وصل لذروته عند 9.1% فى يونيو، وهو أكبر ارتفاع منذ نوفمبر من عام 1981، وباستبعاد مكونات الغذاء والطاقة المتقلبة، تكون أسعار المستهلكين قد ارتفعت 0.6% فى أغسطس بعد ارتفاع 0.3% فى يوليو، وارتفع ما يسمى بالتضخم الأساسى 6.3% فى أغسطس على أساس سنوى، بعد ارتفاع 5.9% فى يوليو.
توقعات نمو الاقتصاد الأمريكى
عدّل بنك الاستثمار العالمى «غولدمان ساكس» تقديراته للنمو الاقتصادى فى الولايات المتحدة فى عام 2023، معززا بتوقُّعات اتجاه مجلس الاحتياطى الفيدرالى لرفع أسعار الفائدة، ورصدت مذكرة بحثية كتبها الاقتصاديون ببنك «غولدمان ساكس»، أن الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة سيحقق معدل نمو 1.1% فى عام 2023، مقارنة مع توقُّع بنسبة 1.5% سابقا، فيما حافظ «غولدمان ساكس» على التوقُّعات لعام 2022 دون تغيير عند 0%، بينما رفع توقعاته لسعر فائدة التمويل لدى مجلس الاحتياطى الفيدرالى بنحو 75 نقطة أساس مقارنة بالأسبوعين الماضيين، ليتراوح معدل الفائدة النهائى بين 4% و4.25% بحلول نهاية عام 2022.
ويرى الاقتصاديون أن مسار أسعار الفائدة المرتفعة المقترن بالتشديد الأخير فى الظروف المالية، يشير إلى توقعات أسوأ إلى حد ما للنمو والتوظيف خلال العام المقبل، وأن توقعاتهم للنمو أقل بقليل من المستوى المتفق عليه، وهى تشير إلى مسار نمو أقل من المتوقع، الذى يعتقدون أنه ضرورى لتهدئة تضخم الأجور والأسعار، ورفع «غولدمان ساكس» التوقعات لمعدل البطالة ليعكس انخفاض النمو، مرجحا أن يصل إلى حوالى 3.7% بنهاية عام 2022، مقارنة بالتوقعات عند 3.6% سابقا، وقدر البنك أن يرتفع معدل البطالة عند 4.1% بنهاية عام 2023 مقابل 3.8% سابقا، وإلى 4.2% بنهاية عام 2024 مقارنة مع التقدير السابق البالغ 4%.
ووفقا لمسح أجرته جامعة ميتشيغان، فإن المستهلكين يتوقعون ارتفاع التضخم السنوى عند مستوى 2.8% خلال الأعوام الخمسة إلى العشرة المقبلة، وهو أدنى مستوى للتوقعات منذ يوليو 2021، وأظهرت البيانات، أن المستهلكين يتوقعون ارتفاع التكاليف بنسبة 4.6% خلال العام المقبل، فى أدنى مستوى للتوقعات منذ سبتمبر الماضى، وبالنسبة لتوقعات الأوضاع المالية فقد اعتبر نحو 42% من المستهلكين المشاركين فى المسح، أن ارتفاع الأسعار يُخفّض مستويات معيشتهم، بانخفاض عن نسبة 49% فى مسح يوليو.
اعتبر قلة من المستهلكين أن نقص الإمدادات وأسعار البنزين آخذة فى الانخفاض، بينما مقاييس التضخم الأخرى متسارعة وعلى نطاق واسع، مثل تكاليف الغذاء والسكن، وقالت جوان هسو، مديرة الاستطلاع الذى أجرته جامعة ميشغان: إنه مع تضارب البيانات بشأن الأسعار، واستمرار ذلك فى تأجيج حالة عدم اليقين لدى المستهلكين، من المحتمل أن تظل توقعات التضخم غير مستقرة نسبيا خلال الأشهر المقبلة.
الأسهم الأمريكية فى مرمى الفائدة
الأسهم الأمريكية لم تكن أوفر حظا، فى ظل توقعات رفع أسعار الفائدة خلال اجتماع مجلس الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى المقبل، حيث شهدت الأسهم أسوأ خسارة أسبوعية لها منذ منتصف يونيو الماضى، وحتى مع بداية الأسبوع الجارى، كانت التعاملات متقبلة فى الوقت الذى تحاول فيه الأسهم محو الخسائر فى بداية تعاملات الأسبوع، بالتزامن مع استعدادات المتداولون لرفع أسعار الفائدة بمعدل كبير وسط تصاعد المخاوف بشأن ما إذا كان الاحتياطى الفيدرالى قد يزيد من تشديده، ويزيد من احتمالات الهبوط، حيث يراهن المستثمرون على أن لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية سترفع الفائدة 75 نقطة أساس مع احتمالات وصول معدلاتها إلى ما فوق 4% قبل أن يتحول الاتجاه.
وأدى السباق المحموم بين البنوك المركزية لربح السباق أمام التضخم إلى رفع نحو 90 بنكا مركزيا أسعار الفائدة، خلال العام الجارى، نصفها كان بنحو 75 نقطة أساس على الأقل فى مرة واحدة، وأغلبها كرر هذا الإجراء أكثر من مرة، إلى حد دفع إيثان هاريس، أحد أكبر الاقتصاديين فى «بنك أوف أمريكا» بوصفها «مسابقة على من يستطيع زيادة الفائدة أسرع من الآخرين»، وكانت المحصلة موجة تشديد للسياسة النقدية هى الأوسع نطاقا منذ 15 عاما، وخروج قاطع من عصر الأموال الرخيصة الذى دشنته الأزمة المالية فى عام 2008، والذى اعتبر العديد من الاقتصاديين والمستثمرين أنه الوضع الطبيعى الجديد، ويتوقع بنك «جيه بى مورغان تشيس» أن يشهد الربع الحالى أكبر زيادات فى أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الرئيسية منذ عام 1980.
أزمة الطاقة بأوروبا تدخل مرحلة الصدام
فى الوقت الذى تتجه فيه الأنظار إلى اجتماع بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى المقبل، فإن أزمة الطاقة فى أوروبا لا تقل سخونة عن توقعات رفع أسعار الفائدة الأمريكية، خاصة بعد توقعات باتجاه ألمانيا لتأميم وحدة محلية لشركة نفط روسية، حيث دعت جمهورية التشيك، التى تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبى، إلى عقد اجتماع عاجل لوزراء الطاقة فى 30 سبتمبر الجارى، للوصول إلى خطة أزمة على مستوى دول الاتحاد قبل بدء موسم التدفئة فى الشتاء، ما يعنى احتمال تبلور الشكل النهائى للمقترحات المتعلقة بالتدخلات فى السوق أو التحكم فى الطلب أو دعم المستهلكين الأسبوع المقبل.
التضخم يضرب اقتصاد اليابان
لم يسلم الاقتصاد اليابانى من تبعات التضخم، التى تلاحق الاقتصاد العالمى، وسجل التضخم فى اليابان أعلى وتيرة له منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهو ما يضع البنك المركزى هذا الأسبوع فى مأزق، حيث يسعى إلى تفسير سبب حاجته إلى الاستمرار فى التحفيز النقدى، عندما يكون التضخم أعلى بكثير من هدفه البالغ 2%.
ارتفعت أسعار المستهلكين فى اليابان باستثناء المواد الغذائية الطازجة بنسبة بلغت 2.8% فى أغسطس الماضى مقارنة بالعام الماضى، وفقا لوزارة الشؤون الداخلية، مقابل توقعات المحللين بارتفاع نسبته 2.7%.
كانت القراءة هى الأكبر منذ عام 1991، مع تحييد زيادة ضريبة المبيعات، واستمر ارتفاع تكاليف الطاقة والأغذية المصنعة فى التسبب بالزيادة على أساس سنوى، فى حين ساهم ارتفاع أسعار الكهرباء وانخفاض رسوم الهاتف المحمول فى التسارع.
ومن المستبعد أن يدفع التقرير بنك اليابان إلى تغيير سياسته فى اجتماعه المقبل رغم وتيرة التضخم الأسرع، حيث قال المحافظ هاروهيكو كورودا: إن البنك سيبقى أسعار الفائدة عند أدنى مستوياتها حتى تجعل مكاسب الأجور القوية التضخم أكثر استدامة، وأدى تمسك محافظ البنك المركزى اليابانى بالحوافز إلى وضع بنك اليابان فى طريق مخالف عن البنوك المركزية، بنك الاحتياطى الفيدرالى، وبنك إنجلترا، والبنك الوطنى السويسرى من بين البنوك التى من المرجح أن ترفع أسعار الفائدة هذا الأسبوع، ما يجعل بنك اليابان أكثر عزلة عن موقف السياسة النقدية العالمية.
توقعات البنك الدولى للاقتصاد العالمى
حتى الآن، تتفق الأوضاع الاقتصادية مع ما أعلنه تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية الصادر مؤخرا عن البنك الدولى، تحت عنوان الحرب فى أوكرانيا تتسبب فى ارتفاع معدلات التضخم، وتشديد الأوضاع المالية، حيث اعتبر البنك الدولى أن الحرب الروسية الأوكرانية إلى جانب الأضرار الناجمة عن جائحة فيروس كورونا كوفيد-19 أدى إلى تفاقم التباطؤ فى وتيرة الاقتصاد العالمى، الذى بدأ يدخل فترة يمكن أن تصبح طويلة من النمو الضعيف والتضخم المرتفع، وهذا بدوره يزيد من مخاطر الركود التضخمى، مع التسبب فى عواقب محتملة الضرر على الاقتصادات متوسطة ومنخفضة الدخل على حد سواء.
وتوقع التقرير تراجع النمو العالمى من 5.7% فى عام 2021 إلى 2.9% فى عام 2022 وهى نسبة أقل بكثير من النسبة، التى كانت متوقعة فى شهر يناير والبالغة 4.1%، كما يتوقع أن يتابع النمو العالمى تأرجحه حول تلك الوتيرة، خلال الفترة من 2023 إلى 2024، فى وقت تتسبب فيه حرب أوكرانيا فى تعطيل النشاط الاقتصادى والاستثمار والتجارة على المدى القريب، ويضعف فيه الطلب المكبوت، فضلا عن إنهاء العمل بالسياسات المالية والنقدية التيسيرية، ونتيجة للأضرار التى نجمت عن الجائحة والحرب، سيظل مستوى نصيب الفرد من الدخل فى الاقتصادات النامية هذا العام منخفضا بنحو 5% عن اتجاهاته التى كانت سائدة قبل تفشى الجائحة.
وقال ديفيد مالباس رئيس البنك الدولى: إن توجه الحرب الدائرة فى أوكرانيا، وحالات الإغلاق فى الصين، وما تشهده سلاسل الإمداد من اضطرابات، ومخاطر الركود التضخمى ضربات شديدة إلى النمو العالمى، ومن ثم سيصعب على كثير من البلدان تجنب مخاطر الركود، وتتطلع الأسواق إلى استئناف العمل من جديد، وبالتالى من الضرورى تشجيع الإنتاج وتجنب فرض القيود التجارية، وثمة حاجة إلى إجراء تغييرات فى السياسات المالية والنقدية والمناخية وسياسة الديون، وذلك لمجابهة سوء تخصيص رأس المال وعدم المساواة.
قدم تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية تقييما منهجيا للأوضاع الاقتصادية العالمية الحالية، مقارنة بالركود التضخمى الذى شهدته سبعينيات القرن العشرين، ويركز بصفة خاصة على كيف يمكن لهذا الوضع أن يؤثر على اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، حيث تطلب التعافى من الركود التضخمى فى سبعينيات القرن العشرين زيادات كبيرة فى أسعار الفائدة فى الاقتصادات المتقدمة الكبرى، وهو ما لعب دورا بارزا فى إحداث سلسلة من الأزمات المالية فى اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية.
قال أيهان كوسى، مدير مجموعة آفاق التنمية التابعة للبنك الدولى: إن الاقتصادات النامية عليها الموازنة بين الحاجة إلى ضمان استدامة المالية العامة من جهة، والتخفيف من آثار الأزمات المتداخلة الحالية على أشد مواطنيها فقرا من جهة أخرى، ويمكن أن يؤدى كل من الإفصاح عن قرارات السياسة النقدية بوضوح، والاستفادة من أطر السياسة النقدية ذات المصداقية، وحماية استقلالية البنوك المركزية إلى تثبيت توقعات التضخم بشكل فعال، والحد من حجم تشديد السياسة المطلوب لتحقيق الآثار المرجوة على التضخم والأنشطة.
ومن المتوقع، تراجع التضخم العالمى فى العام المقبل، لكنه سيبقى على الأرجح أعلى من أهداف التضخم فى الكثير من الاقتصادات، ويشير التقرير إلى أنه إذا ظل التضخم مرتفعا، فإن تكرار قرارات فترة الركود التضخمى السابقة يمكن أن يتم ترجمته إلى هبوط حاد فى النشاط الاقتصادى العالمى جنبا إلى جنب مع أزمات مالية فى بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية.
ومن المتوقع، أن تزداد حدة تباطؤ النمو فى الاقتصادات المتقدمة من 5.1% فى عام 2021 إلى 2.6% فى عام 2022، أى أقل بمقدار 1.2 نقطة مئوية عن توقعات يناير، كما يتوقع أن يزداد تراجع النمو ليصل إلى 2.2% فى عام 2023، وهو ما يعكس إلى حد كبير مواصلة تقليص دعم سياسة المالية العامة والسياسية النقدية، الذى كان يُقدم خلال الجائحة.
ومن المرجح، أن ينخفض النمو فى اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية من 6.6% فى عام 2021 إلى 3.4% فى عام 2022، أى أقل بكثير من المتوسط السنوى البالغ 4.8% الذى ساد خلال الفترة من 2011 إلى 2019، ولن تؤدى التداعيات السلبية للحرب إلى تحييد أى انتعاش قريب الأجل يشهده بعض البلدان المصدّرة للسلع الأولية من ارتفاع أسعار الطاقة فحسب، بل ستفوقه أيضا، وقد جرى تعديل تقديرات النمو لعام 2022 بالخفض فى نحو 70% من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، ويشمل ذلك أغلب البلدان المستوردة للسلع الأولية، علاوة على 80% من البلدان منخفضة الدخل.
يبرز التقرير الحاجة إلى اتخاذ إجراءات حاسمة على صعيد السياسات الوطنية والعالمية، لتجنب أسوأ عواقب الحرب الدائرة فى أوكرانيا على الاقتصاد العالمى، وهذا بدوره سيتضمن جهودا عالمية للحد من الأضرار الواقعة على المتضررين جراء الحرب، وتخفيف آثار الضربة الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط والغذاء، وتسريع تدابير تخفيف وطأة الديون، وكذلك توسيع نطاق حملات التلقيح فى البلدان منخفضة الدخل، كما سيتضمن ذلك استجابات فعالة وقوية فى جانب العرض على المستوى الوطنى مع الإبقاء على تشغيل أسواق السلع الأولية العالمية بشكل فعال.
علاوة على ذلك، ينبغى على واضعى السياسات الحد من السياسات التشويهية مثل ضوابط الأسعار، وإعانات الدعم، وفرض الحظر على الصادرات، التى يمكن أن تفاقم الوضع السيئ الناجم عن الزيادة الأخيرة فى أسعار السلع الأولية.
وفى ضوء هذه البيئة الصعبة، التى تتضمن ارتفاع مستويات التضخم، وضعف النمو، وتشديد الأوضاع المالية، فضلا عن حيز التصرف المحدود المتاح من خلال سياسات المالية العامة، سيتعين على الحكومات إعادة ترتيب أولويات الإنفاق لصالح المساعدات الإغاثية الموجهة للفئات السكانية الأكثر احتياجا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة