تسلل المرض إلى جسد عالم الفيزياء الفذ الدكتور على مصطفى مشرفة منذ عام 1947، وسافر إلى أوروبا للعلاج أكثر من مرة، وفى الأسبوع الثانى من يناير، 1950، شعر بدوخة وسقط فى الحمام، وقال الأطباء إنه مريض بالكبد ولا خطر منه ونصحوه بالراحة، وأثناء ذلك اتصل بالدكتور طه حسين ليهنئه باختيار النحاس باشا له وزيرا للمعارف فى حكومته، وهنأه مداعبا: خلاص يا طه عملت وزير وستترك العلم، وفى صباح 16 يناير، 1950، حاول أن يرتدى ملابسه ليحضر جلسة افتتاح البرلمان التى سيلقى فيها النحاس برنامج حكومته، لكنه شعر بدوار وهمد بعدها جسده ومات، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محسن عبدالعزيز فى مقاله «أسطورة على مشرفة، الأهرام، 11 أكتوبر 2021».
شيعت جنازته فى 17 يناير، مثل هذا اليوم، 1950، وكان موته فاجعة يصفها الكاتب والشاعر كامل الشناوى فى كتابه «زعماء وفنانون وأدباء»، قائلا: «وقع الحدث الجلل، احترق الشهاب المشحون علما وذكاء وعبقرية، مات على مصطفى مشرفة وفى رأسه كثير من العلم، وفى نفسه كثير من الألم، فقد حزت فى نفسه إذلاله بإقصائه عن منصب وكيل الجامعة، ومنعه كبرياؤه من أن يشكو، وكما عاش حياته العلمية فى هدوء لفظ آخر أنفاس حياته فى هدوء».
عبرت الصحف المصرية صباح يوم 17 يناير، ومنها الأهرام والمصرى والأساس والمقطم والكتلة والزمان، عن صدمتها، ونشرت الأهرام تقريرا عنه بالصفحة الرابعة بعنوان «الدكتور مشرفة باشا»، قالت فيه: «روعت المحافل العلمية أمس بوفاة العالم المصرى مشرفة باشا، عميد كلية العلوم فى جامعة فؤاد الأول، والحجة العالمى فى الرياضيات والبحوث العلمية المتفرعة عليها، فقد فقدت بوفاته إماما من أئمتها ولواء من أولويتها، كما فقدت مصر بفقده علما من أعلام نهضتها العلمية، أعلى بكفايته شأنها، ورفع ذكرها، وكان عنوانا كريما لعلمائها فى الأوساط الدولية المعنية بشؤون العلم»، ويذكر الكاتب الصحفى سامح كريم، فى مقاله «مشرفة رائد نهضتنا العلمية الحديثة» بالأهرام، 18 يناير 1985: «إن أينشتاين أكبر علماء العصر، قال: لا تقولوا إن مشرفة قد مات، لا، إنه حى بأبحاثه، إننا محتاجون إليه، إنها خسارة كبيرة، لقد كان رائعا، وكنت أتابع أبحاثه فى الذرة بكل ثقة، فهو من أعظم علماء الطبيعة».
كانت إنجازات «مشرفة» هائلة بالرغم من حياته القصيرة، حيث رحل وعمره 52 عاما فقط، فهو من مواليد دمياط 11 يوليو 1898، وكان حصوله على الترتيب الأول على القطر المصرى فى الشهادة الابتدائية عام 1910 ميلادا لنبوغه، ثم أول الناجحين فى البكالوريا، وفى عام 1917 ينال إجازة المعلمين العليا، ويسافر إلى إنجلترا ويحصل منها على دكتوراه الفلسفة عام 1923 ثم دكتوراه العلوم 1924 ليكون أول مصرى يحصل عليها، ويصبح أصغر أستاذا للرياضيات بكلية العلوم، جامعة فؤاد الأول عام 1926، ويتدرج فى المناصب حتى يصبح عميدا لكلية العلوم عام 1936، ثم وكيلا منتخبا للجامعة فى عام 1946، لكن الحكومة تقصيه من هذا المنصب عام 1948 وتعين الأحدث منه فى الدرجة العلمية والوظيفية مديرا للجامعة، وترفض منحه جائزة الدولة عندما تقدم بأبحاثه العلمية، ووفقا لسامح كريم: «رفض الملك منحها له وأعطاها لأحد تلاميذه».
يكشف كامل الشناوى أن أول معرفته به كانت فى سهرة بمنزل مكرم عبيد، احتفالا بعيد ميلاده بحضور الفنان محمد عبدالوهاب، وبعد انشقاق «عبيد» عن حزب الوفد، ويسجل ما رآه فيه منذ هذه الليلة، قائلا: «كان شخصية جليلة مهيبة، ومبعث إجلاله ومهابته تبحره فى علوم لا يدرك قيمتها إلا الأساتذة المتخصصون فى هذه العلوم التى كانت حدثا جديدا بالنسبة إلى العصر كله، ولغزا غامضا بالنسبة إلى البلاد المتخلفة، وكان بلدنا واحدا من هذه البلاد، عندما لقيت العالم المصرى كان اقترن اسمه بعدة أبحاث عن الطاقة الذرية والنظرية النسبية لأينشتاين، وأصدر عدة كتب عن الهندسة الوصفية والميكانيكا العلمية والنظرية، والهندسة المستوية الفراغية، والنظرية النسبية الخاصة، والذرة والقنابل الذرية، والعلم والحياة، وكان أول من دعا إلى وجوب التعاون العالمى لتوجيه العلماء، ونبه إلى وجود معدن اليورانيوم فى مصر.
يسلط «الشناوى» الضوء على جانب آخر فى شخصية «مشرفة»، فبعد أن راقبه وهو يتابع غناء عبدالوهاب بنقرات أصابعه على المقعد، وبضربات خفيفة بأطراف قدميه على السجادة، أثناء سهرة مكرم عبيد، اقترب منه وسأله: «هل تهوى الموسيقى؟ قال: أهواها وأدرسها.. سأله: هل عندنا ألحان عالمية؟ رد: عندنا صوت عالمى هو صوت أم كلثوم.. سأله: ولكنك عالم متخصص فى أشياء لا تمت إلى الموسيقى بصلة، قال: فى أعماق كل عالم فنان، هذا إن صح أنى عالم».