أمر الخديو إسماعيل بأن تزين شوارع القاهرة المهمة بالتحف والفوانيس المختلفة الألوان، وفى نهايتها أقواس نصر مختلفة الأنوار وفى أعاليها طرقات رصعت بالشموع، وذلك احتفالا بزواج أبنائه الأمراء الثلاثة، توفيق، وحسين، وحسن، من الأميرات، أمينة خاتم بنت إلهامى باشا بن عباس الأول، والأميرة عين الحياة بنت الأمير أحمد باشا إبراهيم، والأميرة خديجة بنت الأمير محمد على الصغير بن محمد على باشا الكبير، وزواج أختهم الأميرة فاطمة من الأمير طوسون بن محمد سعيد، حسبما يذكر «إلياس الأيوبى» فى كتابه «تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل».
أقيمت الاحتفالات ابتداء من 15 يناير 1873، ودامت أربعين يوما متتالية موزعة على عشرة أيام لكل واحد من الأربعة، ويقدم «الأيوبى» وصفا تفصيليا عن حالة البذخ التى سادت خلال هذه الأيام، واشتهرت تاريخيا باسم «أفراح الأنجال»، كما يذكر أحمد شفيق باشا فى الجزء الأول من مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن»، جانبا مما رآه فيها حيث كان تلميذا وقتها، وأصبح فيما بعد فى معية الخديو توفيق، ثم تولى رئاسة ديوان الخديو عباس الثانى.
يصف «الأيوبى» حالة الشوارع قائلا: «تلألأت الشوارع المؤدية إلى القصر العالى مقر والدة إسماعيل وإلى سراى الجزيرة مقر حفلات إسماعيل المفضل، وسراى القبة مقر ولى العهد، وأقيمت فى أهم الميادين جوقات موسيقية أهمها تخت عبده الحامولى، ونصبت فى كل جانب المسارح المرتجلة ليمثل عليها غواة الفن، فيحضر من شاء تمثيلها مجانا، ويعود إلى منزله مرتاحا مبتهجا، ومُدت الحبال فى الساحات العمومية ليلعب عليها البهلوانيون أيضا ألعابهم المدهشة، ورتبت الصواريخ بتفنن غريب فى تلك الجهة وأخذوا يشعلون كل ليلة جانبا منها، فتدوى طلقاتها فى آفاق العاصمة كلها لساعات متوالية، ناشرة فيها الأفراح القائمة، وداعية الأهالى إلى الاشتراك فيها».
وحسب «شفيق» فإن هذه الأفراح ابتدأت بحفلة العقد «كتب الكتاب» التى دعى إليها العلماء والنظار وكبار الأعيان فى سلاملك القصر العالى، وكان يرأس الحفلة خليل أغا، الذى كان محل إجلال الجميع، حتى كانوا يقبلون يده عند المقابلة لنفوذه الكبير عند إسماعيل ووالدته، وكلمته فى الدوائر الحكومية، وبذلك أصبح من ذوى الثروات الضخمة. يضيف «شفيق»: «ابتدأت الحفلة بقراءة القرآن الكريم، ولما تم اجتماع المدعوين دخل الشهود إلى داخل الحريم يتقدمهم الأغوات، حتى إذا وصلوا إلى باب العروس المسدول عليه الستار، سألوا العروس التى كانت بالداخل محاطة بقريباتها وصاحباتها: هل تقبلين أن يكون فلان زوجك؟، على أن يعقبه سكون تام، فيعاد السؤال ثانيا وثالثا إلى أن تجيب العروس بالقبول، فينصرف الشهود إلى السلاملك، ويمضى العقد، وتقدم الشربات فى أقداح من الذهب وتوزع الشيلان على المدعوين».
يذكر «شفيق» أنه فى يوم الأحد، 19 يناير، مثل هذا اليوم، 1873 توجهت عروس توفيق باشا التى كانت تقيم فى سراى الحلمية مع والدتها منذ عقد العقد إلى القصر العالى لتقضى فيه حتى الخميس ولتشاهد الحفلات التى تقام فيه بهذه المناسبة، ولتزف بعدها إلى سراى زوجها، ويذكر الأيوبى الحالة فى هذا اليوم، قائلا: «فى التاسع عشر من يناير بدأت أعياد القصر العالى، فنصبت حول الساحة الممتدة أمامه السرادقات، وعليها أسماء أصحابها، وبيان الغرض المعد كل منها لأجله، وفرشت بالطنافس العجمية الفاخرة، وأقبل أرباب اليازرجة يقيمون ألعابهم اللطيفة وسط تلك الساحة الواسعة، ومن ضمنهم بهلوان كان يصعد حبله بخروف ويجزه فوقه، ثم تفرق لحومه على الفقراء، ورُتب مقصفان للعموم، أحدهما على النمط الغربى، وما فتئ مزدحما بقاصديه، الراغبين على الأخص فى أنبذته العتيقة الجيدة».
يضيف الأيوبى، أن المقصف الثانى كان على النمط الشرقى، وما فتئ هادئا بالمقبلين عليه، وأقيمت صوواين خاصة للقناصل وغيرها للتجار، وأخرى للعلماء، وسرداق لمحافظ العاصمة، علاوة على الصواوين التى أقامها الأعيان على نفقتهم لأنفسهم، ليتمتعوا بمشاهدة الأعياد، وكنت تراهم جالسين فيها يدخلون شبكاتهم والصواوين العمومية المتخذة قهوات للرقص والغناء.
يتحدث الأيوبى عن حالة الرقص والغناء، ونعرف منه أشهر راقصتين وقتئذ وهما «صفية» و«عائشة الطويلة»، يقول: «الرقص والغناء لم يكونا قاصرين على الخارج، بل ما كان منهما فى داخل القصر وفى سر دور الحريم كان أهم وأشهى منظر، هناك كنت ترى أشهر الراقصات مزاحمات صفية وعائشة الطويلة، وغيرهما من ربات الفن السابقات على الإبداع فيه، هناك كنت تسمع «ألمظ» التى كانت إذا غنت أخذت بمجامع القلوب، واستولت على الأسماع برنين صوتها الرخيم، وتوقيع أناشيدها الفتانة، هناك كنت تنظر مشاهير البهلوانية من الإنجليز يأتون من صنوف الألعاب ما يخلب العقول ويدهش الألباب، وأساتذة الكار يأتون من الملاعيب ما يحير الأبالسة أنفسهم وذلك لبهجة ساكنات تلك الدور»