زحف الجيش العثمانى بقيادة الصدر الأعظم يوسف باشا ضيا إلى العريش قادما من سوريا عبر غزة، وضرب الحصار حول قلعة العريش يوم 22 ديسمبر 1799، وكانت فيها حامية من 450 جنديا فرنسيا، وانتهى الحصار باستسلام الفرنسيين واحتلال العثمانيين لها يوم 30 ديسمبر 1799، وقتلوا منهم 230، وأسروا الباقين، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثانى من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر».
كان الفرنسيون يواصلون احتلالهم لمصر منذ قدومهم بقيادة نابليون بونابرت إلى الإسكندرية يوم 2 يوليو 1798، وكانت مصر تخضع لسلطة الوالى العثمانى، ووفقا للرافعى، فإنه فى 18 أغسطس سنة 1799 عاد نابليون إلى فرنسا تاركا مهمة القيادة إلى الجنرال كليبر، وترك له رسالة أجاز فيها التفاوض للصلح مع تركيا والجلاء عن مصر، وكانت مقاومة المصريين وثوراتهم، والتحالف بين تركيا وإنجلترا وروسيا أهم أسباب نابليون فى أن يقرر ذلك.
يذكر الرافعى، أنه جرت محادثات بين مندوبى الدول المتحالفة والمندوب الفرنسى على ظهر الباخرة الإنجليزية «تايجر» فى عرض البحر يوم 23 ديسمبر 1799، واستمرت المفاوضات أياما عرض فيها المندوب الفرنسى شروطه التى فوجئ بها المندوب الإنجليزى، فاقترح أن تتحرك الباخرة إلى مياه سوريا لمقابلة الصدر الأعظم الذى كان معسكرا بالقرب من غزة، وأبحرت السفينة إلى يافا، وهناك وصل إلى المندوب الفرنسى نبأ سقوط قلعة العريش فى قبضة العثمانيين، مما أدى إلى تساهله فى قبول شروط الصلح التى بدأت المفاوضات بشأنها من جديد يوم 13 يناير 1799.
يذكر الرافعى، أن المفاوضات انتهت بتوقيع معاهدة الصلح فى 24 يناير، مثل هذا اليوم، 1800 وهى المعروفة تاريخيا باسم «معاهدة العريش»، ونصت على أن الغرض منها هو، جلاء الجيش الفرنسى عن مصر لرغبته فى وضع حد لسفك الدماء، وإنهاء النزاع القائم بين الجمهورية الفرنسية والباب العالى، وتقضى المعاهدة بجلاء الجنود الفرنسيين عن مصر بأسلحتهم وأمتعتهم وأثقالهم، وإقلاعهم بحرا من ثغور الإسكندرية ورشيد وأبوقير على السفن الفرنسية والسفن التى تعدها الحكومة العثمانية، ولهذا الغرض ترسل الحكومة العثمانية إلى الإسكندرية بعد شهرين من التصديق على المعاهدة قوميسيرا ومعه خمسون شخصا لإعداد السفن التى تقل الجنود، ويتم الجلاء فى مدى ثلاثة أشهر تكون بمثابة هدنة لتنفيذ شروط المعاهدة، وفى حالة عدم ورود السفن التركية لنقل الجنود فى خلال هذه المدة تمد الهدنة إلى أن يتم رحيلهم، وتعهد الطرفان بالمحافظة على سلامة الجنود والأهالى أثناء الجلاء.
يذكر «الجبرتى» فى موسوعته «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»: «تم عقد الصلح على اثنين وعشرين شرطا رسمت وطبعت فى طومار «الصحيفة» كبير، وورد الخبر بذلك إلى مصر وفرح الناس بذلك فرحا شديدا، وأرسل سارى عسكر الفرنساوية «كليبر» مكاتبة بصورة الحال إلى دوجا قائمقام، فجمع أهل الديوان وقرأ عليهم ذلك، ولما ورد ذلك الطومار «الصحيفة» المتضمن عقد الصلح والشروط عربُوه لأنه كان محررا بالفرنسية والتركية، وطبعوا منه نسخا كثيرة فرقوا منها على الأعيان، وألصقوا منها بالأسواق والشوارع».
لم يستمر فرح المصريين كثيرا، حيث رفضت الحكومة الإنجليزية المعاهدة، ولم تقبل أن يبحر الفرنسيون بأسلحتهم، وأصرت على أن يسلموا أنفسهم كأسرى حرب، وأعطت أوامرها إلى قائد أسطولها البحرى بألا يأذن لهم باجتياز البحر والوصول إلى فرنسا.. يذكر الرافعى: «أدرك كليبر أن الحكومة الإنجليزية عبثت به فى مفاوضات العريش فتركته يتعهد بالجلاء عن مصر واعتزمت أن تأخذ جنوده كأسرى حرب، وفى الوقت نفسه كان يوسف باشا الصدر الأعظم يتقدم بجنوده فى داخل البلاد تنفيذا للمعاهدة، فاحتلت جنوده قطية والصالحية وبلبيس والسويس والمنصورة وعزبة البرج ودمياط دون قتال واستقر فى بلبيس».
يضيف الرافعى، أن كليبر شعر بحرج موقفه، فأخذ يستعد لاستئناف القتال، وكان بعض الجنود العثمانيين دخلوا القاهرة أفرادا وحدثت بينهم وبين جنود فرنسيين بعض المشاجرات، فأصدر كليبر أمرا بألا يدخل القاهرة أى جندى عثمانى، وأثناء ذلك وصل إلى القاهرة مندوب إنجليزى يحمل خطابا أشبه ببلاغ نهائى إلى كليبر ينذره بتسليم ما لديه من سلاح وذخيرة وأمتعة وسفن، وأن يسلم جنوده كأسرى حرب، وكان هذا الإنذار نقضا صريحا لمعاهدة العريش، وإعلان لحرب جديدة، وأخذ يستعد لقتال الجيش العثمانى.
يعلق الرافعى: «مصر لم يكن يهمها إلا الجلاء، لكن الحكومة الإنجليزية كانت تريد إذلال فرنسا بسبب العداء بينهما، ونفخت نار القتال فى مصر، ولقى الشعب المصرى فى ميدان الحرب الجديدة من الويلات والكوارث ما كان عنه بمنجاة، ففى خلال هذه الحرب ثارت مدينة القاهرة ثورتها الثانية فسفكت فيها الدماء وأحرقت المدينة، وتهدمت الدور وضاعت الأرواح وتفاقمت الخطوب، كل ذلك لأن السياسة الإنجليزية أبت أن تنفذ معاهدة اشتركت فى وضعها».