من نور قلبها ترى الحياة وتصوب سهامها بشموخ وعزة كالفرسان، فقدانها للبصر لم يمنعها يوما من أن ترى العالم بإحساسها وقلبها الذي يشع نورا، تمضي في الحياة بإرادة وعزيمة الأبطال غير آبهة بالصعوبات، لم تترك الإعاقة تعيقها عن تحقيق ذاتها والوصول إلى قمة النجاح، فأطلقت خيالها وحلمها إلى أبعد مدى حتى حققت مرادها وأصبحت أول كفيفة على مستوى الوطن العربي وأفريقيا تمارس رياضة القوس والسهم وتحصد البطولات.
منة الله عصام الدين.. فتاة عشرينية أصرت وعزمت على المواصلة نحو تحقيق حلمها في التفوق والنجاح دون يأس أو استسلام، أثبتت أن لا شيء مستحيل طالما نحيا بالعزيمة والإرادة، فتحدت صاحبة الأمل فقدانها للبصر، وقررت البحث عن هواية تتيح لها الفرصة للتميز والإبداع، فقهرت الظروف وكسرت الحواجز وصنعت لنفسها مستقبلا باهرا في رياضة القوس والسهم متخذة منها سبيلا ومتنفس تعبر به عن أحلامها وآمالها الحرة التي لا تعرف حدودا أو قيود.
مثلت "منة الله" لكثيرين طاقة أمل ونور بعد رحلة من التحدي والكفاح خلقت فيها من رحم المعاناة أمل وحياة، ولدت صاحبة الأمل مبصرة لكن شاء لها القدر أن تفقد بصرها بشكل مفاجئ وهي لا تزال في عمر الزهور، تقول: لم أولد كفيفة البصر، ولدت مبصرة ومع مرور الوقت أصبت بضعف البصر حتى فقدت النظر تماما، ولكن هذه المحنة اعتبرتها منحة من الله عز وجل، فكنت مبصرة بشكل طبيعي جدا حتى الصف الثاني الإعدادي، وفجأة بدأت أعاني من أعراض ملحوظة ومشكلات في الرؤية وضعف في النظر، ولكني تجاهلت الأمر ولم أعطه اهتماما، وفي الصف الثاني الثانوي استعنت بنظارة القراءة الخاصة بوالدي وارتدتها وكنت استخدمها بشكل طبيعي ظنا مني بأن كل ما أعانيه مجرد ضعف بسيط سيتلاشى مع مرور الوقت، ولكن الحقيقة كانت مختلفة تماما فمع مرور الأيام كنت أفقد بصري، حتى وصلت للصف الأول الثانوي وبدأت رؤيتي تصبح مشوشة وأكثر ضبابية، واكتشفت أسرتي ما أعانيه فعرضوا حالتي على أحد أطباء العيون، والذي وصف لها نظارة طبية ليست مناسبة لحالتها الصحية مما أثر بالسلب على نظرها.
مضيفة: "في بداية دراستي في الفرقة الثانية بكلية الآداب بجامعة عين شمس، لاحظ والدي "رحمة الله عليه" تدهور حالتي الصحية فعرض حالتي على طبيب عيون آخر، والذي أخبره خافيا عني الأمر أن نظري لن يدوم لأكثر من عامين، مشيرة إلى أن والدها من شدة خوفه عليها لم يفصح لها عن حقيقة الأمر، خاصة وأنها كانت ترفض أن تعامل بشكل مختلف ومميز من الآخرين بسبب حالتها الصحية، كانت ترفض شدة خوف أسرتها عليها ومنعها من عيش حياتها مثلها مثل أي فتاة في عمرها، فكان والدها يمنعها من خوض تجربة العمل أو التدريب في مجال دراستها دون أن يخبرها عن السبب، كان يريدها أن تركز كل مجهودها وعملها في دراستها بالكلية، خوفا منه من أن يؤثر العمل أو التدريب على نظرها وبالتالي تتأثر دراستها الجامعية.
الحياة بالنسبة لها تحدى، مغامرة يجب أن تخوضها بكل ما فيها من تجارب، لا شيء مستحيل، لا شيء قادر على أن يمنعها من تحقيق أحلامها وآمالها، تقول "منة الله": وقت المذاكرة كنت أستعين بعدسة مكبرة لأتمكن من القراءة والكتابة، أحد أطباء العيون أخبرني بأنني لن أتمكن من الرؤية في فترة المساء فقط، ومن حينها تعمدت أن أباشر كل أعمالي في فترة المساء، لأثبت لنفسي وللجميع أنني قادرة على الخروج في الليل وحدي، وأن لا شيء صعب أو مستحيل، ولا شيء قادر على أن يقيدني ويقتل طموحي في الحياة، إرادتي وعزيمتي كانتا سر قوتي مهما كانت المحاولات لتبديد طاقتي والتقليل من أحلامي، فدائما ما كنت أقول لنفسي بأنني لن أكون رهينة للفشل ولن أسمح للإحباط أن يهزم إرادتي وعزيمتي وأحلامي المشروعة، فلا حجج أو أعذار، لا شيء مستحيل في هذه الحياة طالما لدي هدف وإصرار على تحقيقه، وطالما أطمح في التميز والنجاح.
وتابعت صاحبة الـ29 عاما في حديثها لـ"اليوم السابع": توفيت والدتي فترة امتحاناتي بالفرقة الثالثة، ومن بعدها قررت أن أبحث عن أي فرصة أثبت فيها ذاتي في مجال دراستي بالإعلام، التحقت بنشاط المكفوفين بإحدى الجمعيات الخيرية، ومن وقتها وبدأت أشاركهم في مختلف الفعاليات والأنشطة والأمسيات خاصة "المسائية" والتي كانت تتعارض مع نصائح الطبيب الذي أخبرني بعدم قدرتي على الرؤية فترة المساء، كما انني عملت لفترة مشرفة بإحدى الحضانات، مضيفة "بعد تخرجي من الكلية بدأ والدي يلمح لي بشكل غير مباشر بقرب فقداني للبصر، وبدأ يوجهني لاستخراج بطاقة التأهيل الخاصة بتعيين الـ5% من ذوي الهمم، ولكني كنت في كل مرة أرفض أن أعامل بشكل مختلف وأصر على أن أواصل حياتي وألتحق بوظيفة دون أن يكون ضعف بصري عائقا أمامي".
وأشارت منة الله في حديثها، إلى أن بعد وفاة والدها، قررت أن تستشير إحدى الطبيبات عن وضعها الصحي خاصة وأن حالتها كانت تتدهور يوما بعد يوم، وحينها علمت ما كان يخفيه عنها والدها لسنوات طوال، وهي أنها ستفقد بصرها ذات يوم، مضيفة أن هذه الحقيقة لم تزدها إلا إصرارًا على خوض مجال جديد تتحدى به كل الصعاب، ومن تلك اللحظة اهتدت أن تواصل حياتها بشكل طبيعي دون أن يؤثر فقدانها للبصر على مسيرتها المهنية، فقامت باستخراج شهادة التأهيل الخاصة بذوي الهمم، وعملت بعد تخرجها في مجال العلاقات العامة بإحدى المؤسسات لمدة عامين، كانت حينها تستعين بعدستها المكبرة لإنهاء أعمالها اليومية بمساعدة شقيقاتها، مما تسبب مع مرور الوقت في تدهور حالتها وضعف بصرها تماما وتركها للوظيفة.
ورغبة منها في تطوير مهاراتها وقدراتها، التحقت "منة" بدورات تدريبية عديدة لتعلم برامج وتطبيقات الحاسب الآلي بالناطق، كبداية لها في التأقلم مع حياتها الجديدة، ومن ثم حصلت على كورسات في التصوير الفوتوغرافي، تقول: بالرغم من أن التصوير لم يكن من هواياتي ولم أكن أحبه أو أتقنه فترة دراستي في الكلية إلا أنني قررت أن أتعلمه بعد أن عرفت بأن هناك مبادرة تحت عنوان "قد التحدي"، وأن هناك مكفوفين يتعلمون التصوير ويحترفونه، ففي غضون شهر واحد أحببت التصوير واحترفته وأصبحت أشارك في العديد من الحفلات والفعاليات والأحداث الهامة.. مضيفة: "حبيت التصوير واحترفته مع الوقت، أنا معنديش كاميرا، ولما بقيت أنزل أي فعالية بطلب منهم يوفرولي كاميرا ويسبوني معاها وأنا والكاميرا هنعيش".
وتابعت حديثها قائلة، أن من أهم الفعاليات التي شاركت فيها والتقطت فيها صورا فوتوغرافية، كان أول لقاء ينظمه السفير عبد الله بن ناصر الرحبي سفير سلطنة عمان في مصر، للمكفوفين، كما شاركت في فعالية فنية لذوي الاحتياجات الخاصة بدار الأوبرا المصرية بحضور الفنانة مي نور الشريف، وبعد فترة تعلمت طريقة برايل للمكفوفين وحصلت خلالها على شهادة تقدير من وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج، والتي التقطت لها العديد من الصور الفوتوغرافية، كما مثلت في فيلم قصير للمكفوفين يدعى "أمل" قامت فيه بدور البطلة، والذي شارك في عدة مهرجانات دولية في إيران وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا والتي حصل فيها على المركز الثالث كما شارك في مهرجان يوسف شاهين في مصر، فضلا عن مشاركتها في الموسم الأول لبرنامج العباقرة، واحتفالية "قادرون باختلاف" الأخيرة.
"علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل" حديث لسيدنا عمر بن الخطاب اقتدت به منة الله عصام وأشقاءها، لذلك اتجهت لممارسة رياضتي الفروسية والقوس والسهم، تقول "منة": "في مرة كنا في النادي واخواتي شافوا بنت كفيفة راكبة خيل ولما قالولي حبيت أجرب"، موضحة أنها كانت تحلم بتعلم رياضة الفروسية، وقررت أن تحقق حلمها خاصة بعد أن علمت بأن هناك فتاة كفيفة تمارسها وتحترفها، ولكن عندما ذهبت للنادي لتعلم الفروسية شاهدت رياضة رمي السهم وحينها أعجبت بها وقررت أن تتعلمها بجانب الفروسية، "روحت للمدرب وعرفته ظروفي وسألته هينفع أمارس اللعبة زي أي حد وانجح فيها، قالي إيه المشكلة.. هتشوفي بعد شهر واحد هتوصلي لايه.. وفعلا عدى الشهر واتعلمت أساسيات اللعبة وبقيت أصوب على الهدف وأجيبه، كل فترة كنت بتعلم شيء جديد، بدأت بالتصويب على مسافة 5م، وبعدها 7م، و10م، ودلوقتي الحمدلله بلعب على 18م، وبحاول أتدرب على التصويب على مسافة 25م وأكتر".
أصبحت "منة الله" أول فتاة إفريقية عربية مصرية كفيفة تلعب رياضة القوس والسهم، فشاركت صاحبة الأمل في العديد من البطولات المحلية لرياضة القوس والسهم، حصدت خلالها على المركز الأول، تقول "منة" بعد مرور 6 أشهر من التدريب المتواصل، شاركت في بطولة ودية بين الأندية في مصر حصلت خلالها على المركز الأول، ثم شاركت في بطولة السهم الفضي حصلت خلالها على المركز الأول، ومن ثم شاركت في بطولة السهم الذهبي، ومن بعدها بطولة كأس مصر وحصلت خلالهما على المركز الأول، مما أهلها للمشاركة في بطولة الجمهورية على مسافة 18م، حاصدة المركز الأول على مستوى الجمهورية في السنة الرياضية 2021/2022، ومن بعدها شاركت مجددا في بطولتين وديتين، ومن ثم بطولات السهم الفضي والذهبي وكأس مصر والتي حصلت خلالهم على المركز الأول للمرة الثانية على التوالي، مشيرة إلى أنها ستشارك قريبا في بطولة الجمهورية على أمل أن تحافظ على مستواها وتحصد البطولة للمرة الثانية على التوالي.
تحلم منة الله أن تمثل مصر في بطولة إنجلترا القادمة، تقول: أحلم بالمشاركة في بطولة إنجلترا التي ستنظم خلال شهر أغسطس القادم وحصد الميدالية الذهبية، مضيفة، أنا عضوة في اتحاد القوس والسهم، ونظرا لكوني الكفيفة الوحيدة التي تلعب القوس والسهم في مصر من شروط مشاركتي في البطولات الدولية أن أكون عضوة في اتحاد القوس والسهم للمكفوفين، ولكن مع الأسف اتحاد المكفوفين لا يوجد ضمن رياضاته لعبة القوس والسهم، مما يمنعني من المشاركة في بطولات دولية، موضحة أنها تأمل أن تكون رياضة القوس والسهم ضمن رياضات اتحاد المكفوفين كي تتمكن من تمثيل مصر في البطولات الدولية ومن ثم المشاركة في بارالمبيات باريس القادمة.
"لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس".. رسالة وجهتها صاحبة الأمل "منة الله" لكل الشباب، قائلة: "رسالتي للشباب، خليك ورا حلمك لحد ما تحققه وتوصل لهدفك، جرب مرة واتنين وتلاتة، مش هتخسر حاجة، متسمحش لحد يحطم من أحلامك ويمنعك من تحقيق أهدافك، مفيش شيء صعب أو مستحيل، بالإرادة والعزيمة نقدر نحقق كل أحلامنا وآمالنا، مستحيل يبقى في حاجة مستحيلة.
مشاركة منة الله في احتفالية قادرون باختلاف بحضور وزير الشباب والرياضة
مشاركة منة الله في الفعاليات الهامة
ممارسة منة الله لرياضة الفروسية
منة الله أول كفيفة تلعب رياضة القوس والسهم
منة الله أول كفيفة في مصر تلعب رياضة القوس والسهم
منة الله تحصد البطولات في رياضة القوس والسهم
منة الله تحصد بطولة الجمهورية في القوس والسهم
منة الله عصام الدين
منة الله واحترافها للتصوير الفوتوغرافي
منة الله وتصويرها للفعاليات العامة
وزير الشباب والرياضة ومنة الله
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة