كان صوت السعال لا ينقطع من فم بيرم التونسى، والكلام لا يخرج من تحت لسانه إلا ثقيلا ووجهه أصفر باهتا لا حياة فيه، فأصيبت زوجته بالجزع، وأرسلت تستدعى أبناءه، فجاءت ابنته عايدة مع زوجها، ثم جاءت نعيمة، وجاء محمد من الإسكندرية، ويموت على أيديهم الساعة الواحدة ظهر 5 يناير، مثل هذا اليوم، 1961، بعدما طلب كوبا من الماء، حسبما يذكر صديقه كمال سعد الذى كان موجودا معهم، وينقل عنه الكاتب الصحفى حنفى المحلاوى فى كتابه «الأيام الأخيرة فى حياة هؤلاء».
لم يكن بيرم المولود فى الإسكندرية يوم 23 مارس 1893 «مجرد زجال كما يعرفه أغلب القراء، بل كان قبل ذلك وبعده شاعرا فصيحا بليغا، ونماذج شعره خير دليل على ذلك»، حسبما يذكر الشاعر والناقد والمحقق الأدبى سعد عبدالرحمن فى مقاله «عبقرية بيرم التونسى بين العقاد ومشرفة» بمجلة الثقافة الجديدة، أغسطس 2020، مضيفا: «استطاع بموهبته الفذة أن يشيد من فن الزجل صرحا منيفا تناطح فيه قصائده الزجلية عصم القصائد الفصيحة لكثير من شعراء عصره».
يتحدث هو عن سنوات تكوينه الأولى فى مذكراته الصادرة عن «سلسلة الروائع، أخبار اليوم»: «كان أبى فنانا بالسليقة، ففى الوقت الذى لم تكن الناس تعرف فيه لا الراديو ولا التليفزيون، ولم تكن الجرامافونات قد شاع استعمالها، كان أبى يستأجر شعراء الربابة الذين يظلون ينشدون أمامه طوال اليوم وهو قائم بعمله الشعر البدوى القديم من أمثال قصص أبى زيد الهلالى سلامة، والزير سالم، فغرس ذلك فى نفسى ملكة الشعر البدوى خاصة حتى كدت أنفرد به فيما بعد».
يضيف: «ألحقنى والدى بكتاب فى حى زاوية خطاب الذى يتوسط بين حى الأنفوشى وحى الميدان الذى كان يقع فيه مصنع والدى، فكنت أخرج من الكُتاب إلى المصنع أقضى فيه باقى اليوم بعد الدراسة، وكانت مبادئ القراءة والكتابة فى ذلك الكُتاب هما كل ما وصلانى من تعليم، ثم كان الفضل فى ثقافتى بعد ذلك إلى نهمى فى المعرفة واستدامتى للقراءة».. يحدد نقطة التحول فى حياته، وكانت سنة 1912 حين أقرضه «الشيخ طاهر» زميل ابن أخته فى المعهد الدينى كتابا فى فن العروض، ولم يكد يقرأه حتى تمكن من مختلف الأزجال والأشعار.
لفت الأنظار إليه كما يؤكد هو بقصيدة المجلس البلدى، وألهمه إلى كتابتها سيطرة الأجانب على بلدية الإسكندرية وتحصيلهم للعوائد وإنفاق معظمها على الأحياء التى يسكنونها، ولا ينفق شىء على الأحياء البلدية، وينهبون الباقى.. فكتب: «قد أوقع القلب فى الأشجان والكمد/ هوى حبيب يسمى المجلس البلدى/ ما شرد النوم عن جفنى سوى/ سوى طيف الخيال، خيال المجلس البلدى».
يذكر أنه مع ثورة 1919 قرر أن ينزل بقلمه إلى الميدان، فأصدر سلسلة من الكتيبات الصغيرة أسماها «المسلة».. يقول: «تركز هجومى على عميل الاستعمار الأول رأس العائلة الحاكمة، السلطان فؤاد».. يضيف: «نشرت قصص الفضائح السلطانية فى أزجال ساخرة سميتها «البامية السلطانى والقرع الملوكى والباذنجان العروسى»، فعاقبته الحكومة بإبعاده عن مصر لتبدأ رحلة نفيه وتشريده بين تونس وفرنسا، ومحاولة للعودة متسللا فى 27 مارس 1922، والعيش متخفيا وملازما للشيخ سيد درويش 14 شهرا اشتركا خلالها فى تأليف وتلحين رواية «شهر زاد» حتى أوشى به بعض أهل الأدب كما يؤكد هو، فقبض عليه وأعيد إلى منفاه.
يكرر محاولة العودة متسللا فى 8 إبريل 1938 ويستمر هاربا حتى حصوله على عفو، والسبب كما يقول فى مذكراته: «جاء عيد ميلاد فاروق فمدحته بقصيدة عندما سمعها أعجب بها، وكان هذا فصل الخطاب فى مسألة بقائى فى مصر».
حملته سنوات المنفى إلى فقر وجوع وتشريد ومرض بالربو، كما تركت آثارها عليه، وهو ما لاحظه نجيب محفوظ فى مذكراته التى أعدها رجاء النقاش، ويقول عن اللقاء الأول بينهما، وجاء عن طريق الموسيقار زكريا أحمد: «كنت أظن أن الجلسة سوف تنقلب إلى المزيد من الفكاهة والضحك فى وجود بيرم، ولكننى فوجئت بشخص مختلف تماما عن تلك الصورة التى رسمتها له فى ذهنى، جلس فى ركن بعيد عنا ولم يفتح فمه طوال الجلسة، وفى المرات القليلة التى تحدث فيها، كانت كلماته مقتضبة ومليئة بالأسى والمرارة، ويبدو أن مرد ذلك للمآسى التى مر بها فى حياته ومعاناته وعذاباته».
يذكر بيرم: «بعد عودتى تركت السياسة وتفرغت للإنتاج الفنى والاجتماعى من أوبريتات إلى روايات للسينما والإذاعة والتليفزيون إلى أزجال ومقالات بالجرائد، إلى أغان كثيرة توجتها بالأغانى التى ألفتها لسيدة الغناء العربى أم كلثوم، وساهمت فى إصدار قانون حماية المؤلف والملحن فى مصر، وحصلت على الجنسية المصرية «1953» وحججت بيت الله الحرام».