الحلو حياتي وروحي وأقوله إيه؟ إيه ؟ إيه؟
يحار الواحد، ماذا يقول في مئوية هذا الهرم الفني العملاق؟ هذا النهر المتدفق الصافي منبعا ومصبا؟ هذا النغم العذب الذي يخاطب الروح والقلب والعقل مرتكزا في الذاكرة كمقام موسيقى آسر؟ هذا المجدد الذي نهل من روح الموسيقى مباشرة، فشق لألحانه واديا خصبا في الوجدان؟ فقد مر على ميلاد الراحل الكريم الموسيقار "كمال الطويل" مائة عام بالتمام والكمال، لنا في هذه المائة ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، اعتبارا من يوم تخرج في معهد الموسيقى العربية سنة 1949، فشكل مع صديقه الأقرب "عبد الحليم حافظ حالة فنية خصبة وغنية، استطاعت خلال سنوات قليلة بعدها أن تغير خارطة الموسيقى في العالم العربي، بل لا أبالغ إذا قلت إن تلك الحالة الفنية التي شارك فيها كمال الطويل كقاسم مشترك أعظم أجبرت أساطير الوسط الفني وقتها على تغيير جلدهم، واستفزتهم ليقدموا موجة جديدة من الألحان المتدفقة، لتعلو قيمة "النغمة" فوق كل القيم.
الموسيقار كمال الطويل
كفاية نورك عليا .. نورلي روحي وقلبي
من مائة سنة بالتمام والكمال ولد "كمال الطويل" بحي الروضة بالقاهرة، كان والده كثيرا ما يعقد جلسات الذكر وتلاوة القرآن في بيته، فعرف أن للنغم روح وعقل، وأن أجمله وأعظمه ما خاطب الروح والعقل، لهذا السبب كان يريد أن يغني، فبداخله أنغام كثيرة تريد أن تظهر إلى النور، لكنه مع هذا التحق بكلية الفنون التطبيقية وتخرج فيها، وعمل رساما بوزارة الأشغال العمومية بالاسكندرية وحينما عاد إلى القاهرة بعد ثلاث سنوات التحـق بالمعهـد العـالي للموسـيقى وبعد تخرجه من المعهد العالي للموسيقى عمل في الإذاعة، وعندما أنشئ المعهد القومي للموسيقى (الكونسيرفتوار) ألتحق به، وإنضم معه بليـغ حمدي ومحمود الشريف وفؤاد حلمي لدراسة العلوم الموسيقية ولكنهم لم يستمروا في الدراسة، وقد بدأ كمال الطويل مشواره الفني مع مجموعة من الرفاق صاحبته منذ خطواته الأولى، معظمهم كانوا زملاء دراسة معاً في المعهد العالي للموسيقى، منهم عبد الحليم حـافظ ، علي إسماعيل، محمد الموجي، بليغ حمدي الذي أنضم إليهم بعد خطـوات مـن انضمامهم وتقديرا لدوره في الموسيقى العربية تلقى "الطويل العديد من التكريمات منها أنه عام ١٩٥٨م حصل على وسام الجمهورية للآداب والفنون من الدرجة الأولى من الرئيس جمال عبد الناصر . وفي عام ١٩٦٢م لحن السلام القومي لدولة الكويت فحصل على شهادة تقدير من دولة الكويت وفي عام ١٩٦٦م لحن نشيد لدولة موريتانيا وحصل على وسام من الدولة، وظل "الطويل" محل تقدير واحترام إلى أن توفي في ٩ يوليو عام ٢٠٠٣م .
كمال الطويل وعبد الحليم حافظ
بانو بانو بانو على أصلكو بانوا
ثمة أسطورة يتناقلها الكثيرون تقول إن الملحن الكبير كمال الطويل كان لا يحترف العزف على أية آلة موسيقية، وهو كلام في ظاهره يراد منه التأكيد على فكرة أنه كان عظيم الموهبة لدرجة أنه لم يتقن العزف على الآلات الموسيقية ومع ذلك كان من أكبر ملحنينا، أما باطن الحديث فيراد منه إثبات فكرة عدم أهمية دراسة الموسيقى أو إتقان العزف على الآلات الموسيقية كشرط للممارسة التلحين أو التأليف الموسيقى، وهو غرض يحمل الكثير من الخبث والتهاون في حق فن الموسيقى الراقي راسخ الشروط.
وهناك أسطورة أخرى تقول إنه كان يعزف على آلة البيانو فحسب لكنه لم يكن ماهرا في العزف عليه، وقد تأكدت بنفسي من كذب هاتين الأسطورتين بما لا يدع مجالا للشك، وقد كان هذا التأكد بداية من تأمل بعض الألحان التي وضعها الطويل باقتدار، وهي ألحان شرقية أصيلة، تتنوع مقاماتها الموسيقة بين مقام السيكا بتفريعاته، ومقام الراست بتفريعاته والبياتي بتفريعاته وغيرهم الكثير، فأغنية "طيب يا صبر طيب" التي أداها الفنان القدير عبد المنعم إبراهيم، مثلا خير شاهد على هذا، وأغنية قولوله لعبد الحليم أيضا، وغيرهما الكثير، وحينما رأيت الكثير من صورة "كمال الطويل" وجدته يحتضن آلة العود بمحبة وارتباط، وهنا بدأت مرحلة التحقق من المسألة، فسألت ابنه الموسيقار "زياد الطويل" الذي أكد لي أن والده كان يعزف على آلة العود، وأنه مازال محتفظا بعود والده في منزله، كما وجدت مقالا للأستاذ "أسامه عفيفي" يذكر فيها قصة مهمة تؤكد أنه لم يكن يعزف على العود فحسب، بل درسه كهاو وكمحترف أيضا، وهو ما سنتوقف أمامه قليلا
الموسيقار كمال الطويل
على قد الشوق اللي في عيوني يا جميل سلم
يقول الإستاذ "أسامه عفيفي في مقاله عن "الطويل" تعلق الشاب كمال الطويل بالموسيقى منذ صغره، وكان يهوى الغناء، ثم بدأ يرتجل بعض الألحان التى ذهب بها إلى الشيخ زكريا أحمد ليسمع رأيه فيها كان كمال يود أن يسمع بعض الثناء والتشجيع من الشيخ الكبير، لكن الشيخ زكريا باغته بنصيحة قاسية، قال له اذهب لتتعلم العود أولا! احتار كمال ماذا يفعل لكنه سأل الشيخ أين يذهب؟ فأجابه "اذهب إلى عفيفي في اسكندرية"
فكر الشاب المتحمس في نصيحة الشيخ وقرر أن يعمل بها، فالتحق بمعهد الموسيقى العربية بالإسكندرية عام 1946 وكان أستاذه بالمعهد الفنان محمد عفيفي صديق زكريا حيث درس العود والمقامات والنوتة الموسيقية لمدة سنتين، ثم انتقل إلى القاهرة وأكمل دراسته بمعهد الموسيقى العربية ليتخرج منه عام 1949. التقى كمال الطويل أثناء دراسته بعبد الحليم حافظ وانعقدت بينهما صداقة فنية امتدت لعقود وكان أول من لحن له، احترف الطويل التلحين طوال حياته ولم يقدم على الغناء بل إنه كان يمتنع عن تسجيل أى شيء بصوته! وعمل بالإذاعة المصرية إلى 1956 ثم بوزارة التعليم إلى 1965"
إلى هنا أنتهى كلام "عفيفي" ولعله من المهم هنا أن نؤكد أن الطويل بالفعل لم يغن أبدا ولم نره – بحسب معرفتي وأتمنى أن يثبت عكس هذا – يغني أيا من أغانيه مثل عبد الوهاب أو بليغ حمدي أو الموجي.
كمال الطويل بصحبة مجموعة من الفنانين
ليه خلتني أحبك.. لا تلومني ولا أعاتبك
في تاريخ الأستاذ كمال الطويل مرحلة فارقة لم تجعله يخرج من صحبة عبد الحليم حافظ فحسب، بل جعلته يخرج إلى الشهرة الواسعة ومن أكثر أبوابها رحابة، هذه المرحلة باختصار يمكن أن نسميها مرحلة "ليه خلتني أحبك" وحكاية تلك المرحلة يرصدها الكتاب الأرشيفي "نجاة الصغيرة" الذي كتبته الكاتبة رحاب خالد، والذي أرشحه للقراءة بشدة لما فيه من معلومات مهمة وتفاصيل غنية سواء عن نجاة وتاريخها أو عن الملحنين الذين عملوا معها أو عن العصر الذي نشأت فيه، ومن هذا الكتاب نعرف أن كمال الطويل لحن للفنانة الكبيرة "ليلى مراد" أغنية "ليه خلتني أحبك" وبالفعل غنتها في فيلم الحبيب المجهول، وكانت من أكثر الأغاني التي تعلق بها الجمهور في الفيلم، وقد حان وقت إذاعتها في الإذاعة لكن لجنة الرقابة في الإذاعة رأت أن جملة "فين أهرب من ذنبك" كلمة غير لائقة، لأن معناها أن الذنب وقع! وهو الأمر الذي إن رأيته غير منطقي فلا تقلق، فالفنانة ليلى مراد رأت نفس ما ترى، ولم تستجب لنداء لجنة الإذاعة ولا نداء كمال الطويل المتكرر بإعادة تسجيل الأغنية مع حذف الجملة التي صنعت المشكلة، وهنا التقطت نجاة الصغيرة الموقف، وعرضت على كمال الطويل أن تغنيها هي بالكلمات التي لا تعترض عليها اللجنة، وبحسب كتاب نجاة الصغير الذي أشرنا إليه فقد استأذن الطويل "ليلى مراد" فأذنت له، ومنحت الأغنية لنجاة التي كانت تريد أن تغني أغنياتها الخاصة بعد أن كانت تحترف أداء أغنيات أم كلثوم، فكانت هذه الأغنية فاتحة الخير على كلا من كمال الطويل ونجاة أيضا، وجعلت منهما حالة فنية خاصة أجبرت الجميع على الالتفات إليهما.
كمال الطويل مع أم كلثوم
حبيبي شايفك وأنت بعيد .. وأنا في طريق السهد وحيد
مائة عام مرت على ميلاد كمال الطويل ومازال حاضرا بيننا، و20 عاما مرت أيضا على وفاته هذا العام ومازلت مقعده شاغرا، وقد كان كمال الطويل مشغولا طوال حياته بأن يصنع "حالة فنية" بفنه، لا حالة فنية بشخصه، ولعل هذا ما جعله يرفض رفضا باتا أن يغني أمام الجمهور، وهو أيضا السبب الذي جعله يعتزل التلحين مرتين ليعود في المرة الأولى بسبب وطني، هو حرب أكتوبر، ويعود في المرة الثانية تحت ضغط صديقه يوسف شاهين، ومن خلال هذه المواقف نكتشف مقدار ما يتمتع به "الطويل" من مزاجية، فقد كان فنانا يريد أن يصنع الفن فحسب، وهو ما جعله يصرح ذات مرة أنه اعتزل "قرفا" من الوسط الفني، وهو التصريح الذي عاتبه فيه أقرب أصدقائه إلى قلبه.
الموسيار الكبير كمال الطويل
والله زمان يا سلاحي.. اشتقت لك في كفاحي
تأتي مؤية كمال الطويل مناسبة تماما للروح الوطنية التي زرعها في قلوبنا، ففي فلسطين الآن حرب، وفي القلوب العربية قبلة لا يحيد عنها الجميع تسمى "الانتماء" فما أحوجنا الآن إلى أن نغني "والله زمان يا سلاحي" التي كانت نشيدنا الوطني في يوم من الأيام، وهي من ألحان "كمال الطويل" والتي أدتها المجموعة مع "أم كلثوم" والتي غنت له قصيدة "لغيرك ما مددت يدا" و"غريب على باب الرجاء" وقد تميز كمال الطويل بألحانه الوطنية التي كانت ومازالت من أهم الألحان التي نرددها كلما نسم علينا الوطن بنسماته الخاطفة وأحداثه الجليلة، من تلك الأغاني "حكاية شعب و"بالأحضان" و"بلدي يا بلدي" و "يا أهلا بالمعارك" و"صورة" و"بركان الغضب" و "خلي السلاح صاحي" و"أبنك يقولك يا بطل" و "صباح الخير ياسينا"
طابع كمال الطويل
بكرة يا حبيبي .. يحلو السهر
منذ سنوات قليلة كانت مصر كلها تغني أغنية وردة "بكرة يا حبيبي" والسبب في هذا بالطبع هو أن شابا مصريا بسيطا اسمه أحمد سالم يعمل "نقاشا" صور لنفسه تسجيلا وهو يغني تلك الأغنية أثناء عمله، انتفضت مصر كلها لجمال الصوت وعذوبته، لكني في الحقيقة كنت أعرف أن صوت "سالم" لم يكن هو الوحيد الذي ألقى السحر في القلوب، بل لحن "كمال الطويل" مع التسليم بالطبع بما يتمتع به هذا الشاب المتشبع بالموسيقى من موهبة ومقدرة، ومن وجهة نظري أن فضل "سالم" الحقيقي يرجع استطاعته ببساطة أن يعيد اكتشاف هذا اللحن العبقري المعقد على خلاف غالبية ألحان الطويل، كما غنى الأغنية بإيقاع أبطئ بكثير من وردة فاستطاع أن يستنطق مكامن الطرب في اللحن، والأهم من هذا كله هو أنه استطاع أن يصل إلى الروح "الشعبية" التي سرت في قلب هذا اللحن، وهو أمر شديد الأهمية والصعوبة، صحيح أن الأغنية تبدأ من مقام "العجم" وبالتحديد "عجم العشيران" لكن كما الطويل استطاع بمهارة فائقة أن يتنقل بين المقامات على الطريقة "الوهابية" - نسبة إلى محمد عبد الوهاب - بكل أريحية وبراءة واقتدار، فتنقل ما بين العجم كما ذكرنا ثم مقام "الشوق أفزا" القريب من روح مقام الصبا في "خلي الدنيا وردي" ثم انتقال سريع عبر النهاوند إلى كرد على درجة الفا ثم حجاز على ذات الدرجة، ثم يعود إلى العجم مرة أخرى إلى العجم، أما في الكوبلية الثاني فيبدأ صراحة بالمقام الشرقي الراسخ في وجدان الشعب "البياتي" في بكرة يا حبيبي هنرسم سوا، ثم يذهب إلى الراست في "طريقنا اللي هنمشيه"، ليعود بمنتهى السلاسة والتلقائية إلى العجم، وهو يقول "أنا وأنت هنمشيه" فيما يشبه المعجزة، وتستطيع أن تكتشف بنفسك مقدار "الشعبية" التي كان يسرسبها "الطويل" في أغانية بنفس طريقة "أحمد سالم" وإن لم تستطع فعليك بسماع كلا من "الناس المغرمين" لعبد المطلب، "أسمر يا اسمراني" لفايزة أحمد و"يا رايحين الغورية" لمحمد قنديل، و"سماره ليه الحلو بيدارى" لنجاة، وطيب يا صبر طيب" لعبد المنعم مدبولي، و"يا قمر يا إسكندراني" و"من حقك تعاتبني" لعزيزة جلال.
الموسيقار كمال الطويل
بيت صغير فوق جزيرة لوحدنا.. والعنب طالع وريحة البحر هالله
وكما كان لدى كمال الطويل مخزون وافر من "الشعبية" في داخله كان لديه أيضا مخزون مهول من "الدلع" وهذا المخزون تفجر على يد الراحلة العظيمة "سعاد حسني" التي صنع لها أهم أغانيها على الإطلاق، بل نكاد لا نتذكر شيئا من أغاني سعاد حسني بقدر ما نتذكر ألحان الطويل لها، فمن "بانوا على أصلكوا بانوا" إلى "حبيبي أنت يا فيلسوف" إلى "بمبي" إلى "الدنيا ربيع" إلى " أستنى .. أستنى" إلى يا واد يا تقيل، ولعلي هنا أزعم أن الطويل من أهم من اكتشفوا قدرة إيقاع المقسوم - الذي أصبح علامة فارقة في الغناء المعاصر- على إشاعة البهجة والفرح، وهذا ما نراه في أغنية "يا واد يا تقيل" التي تلاعب فيها بالإيقاع على هواه، ليخرج في النهاية أغنية استعراضية مبهجة ورقيقة، سهلة في التلقي والترديد دقيقة إلى حد العبقرية في التوليف واستخدام العرب الموسيقية، ويمكننا القول إيضا أن الثلاثي "سعاد والطويل وصلاح جاهين" كان يجمعهم لغة خاصة تجعلهم قادرين على أن يقولوا ما يريدون في الوقت الذي يريدون، وأن يؤسسوا لروح جديدة في الغناء الذي يستطيع الجميع أن يغنيه دون مشقة أو تكلف.
"على صوتك بالغنا" أم "راح اللي راح معادش فاضل كتير؟"
كان كمال الطويل شابا يافعا فملأ الدنيا بالألحان اليافعة، وحينما تقدم به العمر لم يتنازل أبدا عن مقعد الشباب، لم يغادره حماسه وميله الفطري إلى التجديد السليم المؤسس على الجمال فحسب، وهو ما نراه واضحا في أغنية فيلم "المصير" بطولة نور الشريف وأخراج يوسف شاهين والتي أداها محمد منير فأصبحت علامة فارقة في تاريخه لفني وفي وجداننا أيضا، وهو في الحقيقة كان قادرا في كل فيلم أن يجعل نفسه بطلا للفيلم، وخاصة مع صديقه "يوسف شاهين" الذي كان يحترمه ويقدره بقدر ما كان يختلف معه ويعترض عليه، لكن يكفي أن ترى مثلا فيلم المصير لتتيقن من أن كمال الطويل كان صاحب البصمة الأعمق والأكثر استدامة، فربما تتذكر الفيلم وربما تتذكر بعضا من حوارات نور الشريف لكن من المؤكد أنك ستتذكر "علي صوتك بالغنا" وكذلك الحال مع فيلم عودة الابن الضال الذي قد تتذكر أحداثه أو لا تتذكرها، لكنا بالطبع ستتذكر صوت ماجدة الرومي وهي تقول "ساعات أقوم الصبح قلبي حزين"
كمال الطويل ومنير مراد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة